بقلم إدريس البوکيلي الحسني
سبحت في الحلقات السابقة سباحة آمنة في بحيرة الذاكرة،فقد كنت على علم بحدود ضفافها وبطبيعة خلجانها، غير أنني وجدت نفسي فجأة في بحر الماضي وقد تاهت بي سفينتي بين أمواج عاتيةمن الذكريات، كانت كثيفة لم أستطع في خضمها تحديد واختيار الموجة
القادرة على دفعي إلى المرفئ الكفيل بتسهيل وتيسير ما
خططته من كلمات متواضعة في السابق عن حاضنة التلال،
كان هدفي أن تكون مقبولة ومنسجمة مع تيارالذكريات.وهكذا قررت أن يكون مرفئي الذي سأبحر منه من جديد ، هو فندق”الجيت” الفاخر بتصنيف الفترة،والقابع فوق برجه المشرف على ضريح ” سيدي ع.الرحمان اولحاج” بمقبرته العتيقة و الصغيرة،والمطل أيضا على مجموعة من الإدارات الرسمية المصفوفة على واجهتي الشارع الرئيس “محمد الخامس” ،كانت لهذا الفندق مزبلة تبعد عنه قليلا، تقع بين أحضان تلال تحميها من شراسة عيون السياح ،لم تعرف كباقي المزابل نباشين ولا قطيع ماشية يرعاها ..فكنا نحن الأطفال نقصدها،غير أن الغربان كانت دائما تسبقنا معتقدة أننا نزاحمها في كل ما فضل من طعام ملقى في المزبلة،لقد كانت غربانا مكتنزة،وربما أكثر لحما وشحما من أمثالها في العالم.،اما نحن الاطفال فقد كنا نحب كل الطيور من عصافير وزرازير وهنادل..الا الغربان التي كان كرهنا لها شديدا ودفينا،كنا نعتقد انها مصدر شؤم بليغ لنا ولأسرنا ولمدينتنا بل للعالم، فقد كنا نؤمن بالتطير أكثر من اعتقتادنا بالسحر والعين ،غير أن اقصى ما كان باستطاعتنا القيام به ضدها ،هو رجمها بالحجارة مستعملين ادينا تارة و المقلاع المعروف عندنا ب”الدي” ورغم ذلك لم نحقق يوما هدفنا،كانت أذكى منا تتحدانا بنعيقها والتحليق فوق هاماتنا ، وقد كنا كعادتنا نبحث في النفايات عن كل ما يمكن توظيفه في تلك المعسكرات التي اقمناها ،غير أن أهم ما كنا نتنافس في جمعه هو غلاقات بعض قنينات الكحول والحاملة لنجوم او ما شابهها والتي وضعناها على أكتافنا ووشينا بها صدورنا محاكاة لما كنا نشاهده في افلام رعاة البقر الأمريكيين بقاعةالشبيبةوالرياضة”لاجونيس” كنا نقلدهم فأقمنا قواعدنا على شاكلتنا وحسب امكانياتنا البسيطة وأثتناها بما انتقيناه من مزبلتنا ، كما أن طبيعة وتضاريس ورزازات تنبهنا الى انها شبيهة ب”تكساس” ونيفادا” الامريكيتين بل هي أحسن.
كانت خيولنا من قصب ،عرباتنا اسلاك وعلب تصبير وقبعاتنا من ورق مقوى..اما حدود معسكرنا فخطوط من
حجارة وطين، اسوارها عالية كقلعة في مخيلتنا ، يمنع قانوننا الطفولي تجاوزها أو تخطيها ، فالدخول والخروج من الواجب أن يكون من الرتاج، كنا نتخيله من أعظم الأبواب،..كانت معاركنا بعد توزيع الأدوار تنتقل خارج محيط المعسكر الى بعض الخنادق التي حفرت أيام حرب
الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963 واهملت ولم تردم،
ذكريات عاشتها ورزازات خلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب،دبابات وعربات محملة بالمدافع،شاحنات وحافلات عسكرية ،جنود بلباس المعركة ، ..كانت المدينةمركز توقف للاستراحة قبل التوجه نحو “حاسي بيضا” وكان الجنود يتفضلون علينا ببعض علب السمك والخبز والجبن ، لم نكن على علم بما يقع،لكن حدث ان كنا في الساحة قبالة وكالة البريد والتلفون والتلغراف،فمرت شاحنة عظيمة حاملة لطائرة نقل عسكرية، قيل أنها جزائرية اسقطها المغاربة في احدى مناطق “قصرالسوق”- الراشيدية حاليا- كان ذلك المرور حدثا كبيرا ،لاننا آنذاك وعينا انها الحرب،والذي أسقط مثل هذه الطائرة ماذا يمكن ان يقع اذا ضرب الانسان ، غير أننا تتبعنا بعدها الحروب مستعينين بالمدياع :حربي العرب ضد اسرائيل سنة 67 وسنة73، وبعد هذه السنة بعامين عشنا حدث المسيرة الخضراء وشاهدنا متطوعي اقليم “الراشيدية”متجهين الى “اغادير”إضافة الى حرب “الفتنام” وكيف هزم الأمريكيون من قبل رفاق “هوشي منه” لم تكن في ورزازات لا تلفزة ولا سينما ولا هم يحزنون،أما الراديو فقد ساهم في تقوية وتوسيع ملكة خيال ابناء حاضنة الشعاب فقد ،كانوا ينامون على سهراته ويصبحون على نغماته ،متتبعين برامجه ،ومن ذكرياتنا أن اذاعة ملحمة” الأزلية” في بداية السبعينيات كان الكل يتابع حلقاتها بشوق واهتمام،حيث تخلو الأزقة والمقاهي ويجتمع افراد الاسرة أو الأصدقاء وامامهم الراديو، طالقين العنان لمخيلتهم وهم يسمعون اصوات :
“عاقسة”و”قمرية”و”السقرديوس”و”السقديس”و”مبسط”
…كانت كل حلقة تبدأ بصوت الملك سيف بن دي يزن(محمد حسن الجندي) قائلا:«رموني اهلي في الخلا ،وسموني وحش الفلا ،واسمي سيف بن دي يزن«».
لقد استمتع الجميع من الكبار حتى الصغار ،بهذه الحكايات المقتبسة من كتاب ” الف ليلة وليلة” خصوصا وأنها كانت شبه (مدرجة)،كان اهتمامنا بها- نحن الأطفال- استمرارية لذلك الوله بحكي سي عبد الله السرغيني الرائع وسي عمر الفيلالي المشوق، في “حلقات” سوق الاحد الاسبوعي او في ساحة المارشي ب”الكانتية” المحادية لمقبرة النصارى ، اعجبنا بطريقة سردهما وتشخيصهما” ل “العنترية” و”الازلية” وحكايات” شهرزاد” ل “شهريار” في” الف ليلة وليلة”
كان كثير من أبناء ورزازات يستغل زيارته ل”مراكش”
لسماع الحكواتيين ب”جامع الفنا”والتجوال في “حلقاتها”
ذات الغرائب والعجائب، وقد سجلت شخصيا إعجابي بهذا الفضاء في قصيدة نثرية بعنوان”جامع الفنا شمس لن تفنى”
وعلى ذكر السوق الأسبوعي فقد كان يوم الاحد عندنا نحن أطفال ورزازات موزعا بين الرياضة -مساء- في ملعب الجيش مؤطرين بأفضل وأوفى المربين والمدربين اذكر منهم سي خلوقي وسي بوجمعة اخزام (مدد الله عمرهما ) اما الصباح فقد كان مخصصا اساسا للتجوال في السوق ،كان بالنسبة لنا احتفالا تلتقي فيه شيطنتنا ببراءتنا، مهرجانا تتفتح فيه بصائرنا وتتفسخ مكبوتاتنا وتتفسح أبصارنا في الوان الخضر والملابس والسلع وسحنات الوجوه ، بل كنا نستمتع بروائح التوابل والفواكه اليانعة المخلوطة بما تبعثه مسام كل كائنات وموجودات هذا السوق ، خصوصا في فصلي الربيع والصيف ، كان هذا الفضاء في ظل هذه الاجواء فرصة اسبوعية للتخفيف من الروتين اليومي واستراحة للعيون من اللون الاغبر النمطي ،بل هو استراحة للآذن من ذلك السكون القاسي والرائع أيضا الذي يدب في شرايين حاضنة التلال وضواحيها.
كان البعض من الأقران- بعد تجوالهم العشوائي – يدخلون في مغامرة ألعاب الحظ -إن كان جيب احدهم منقودا-
غير أن اليافعين منا لا يغامرون ،لانهم يعرفون ان الخسارة نهايتهم، وعادة ما تنتهي الفسحة بالصعود والجلوس بنظام وانتظام على حائط مطل على مكان ايداع دواب السوق من بغال وحمير ،كان هذا الفضاء مثيرا لاننا كنا نتلصص
وننتهك حميمية حميمية هذه البهائم العجماء، غير أن عناقها كانت له دلالات ممتدة في كياناتنا العميقة واللاشعورية،في مجتمع شبه محافظ قامع للرغبات.
و الغريب أن الآباء آنذاك ،رغم بساطة تعلمهم ،إلا انهم كانوا حريصين على تعلم أبنائهم ،وقد سعى مثلا ابي وبتنسيق مع ناظر الاحباس سي” الحموي” رحمهما الله
الى دعوة الفقيه(نسيت اسمه)من نواحي زاكورة ،لتحفيظنا
القرآن الكريم ،رغم أننا التحقنا بالمدرسة ،كان مقر الكتاب في احدى الدكاكين الطينية المتواجدة ما بين فندق لحسن “السيكليس “ومسجد الصومال،والتي هدمت وبنيت مكانها ادارة الاحباس ،ثم انتقلنا الى مقر الكتاب الجديد بعد اعادة
إصلاح وترميم المسجد، كنا مختلطين بنين وبنات ،لم يكن الفقيه رحمه الله قاسيا ولم يكن متسامحا، كل ما يؤثت فضاء الكتاب حصير من دوم ومكان توضع فيه الالواح وخابية ماء ،أما مجلس الفقيه فبساط منسوج من صوف.
|يتبع|
ادريس البوکيلي الحسني