ورزازات….وسم في المسام 6- أقران “كانتينة ” زمان
بقلم:ادريس البوکيلي الحسني
رفوف الذكرى والذاكرة رفوف مملوء كثير منها بمحفوظات الطفولة، فإن تفحصتها وجدتها جميلةومثيرة،
بل رائعة بمستملحاتها ووقائعها واحداثها،لانها مغلفة بالسداجة ،مفعمة بالبساطة والبراءة،مما يجعل وقائع عادية
تكتسب عمقا ودلالات قد تكون لاشعورية. ففي زمن الستينات كان البعض منا يعتقد أن مقر عمالة اي مدينة او اقليم لا بد ان يكون متواجدا في اعلى مكان ،،فهل يرجع سبب هذا الاعتقاد الى الخوف من السلطة والرهبة من ممثليها؟!! أم راجع لسبب آخر…
كانت العمالة زمن طفولتنا الاولى فضاء مجهولا رغم أن بعض زملائنا كان يسكن حيها الصغير جدا،وحين اكتشفناها
أعجبنا بموقعها البانورامي، حيث تتراءى لك المدينة بسيطة في تواضع لا يخلو من جمالية، شارع محمد الخامس يشقها بشكل ملتو، واحياء مشتتة تدنو منه بخجل وحشمة بواسطةممرات وطرق مهترئة غير إسفلتية، وتحت اقدام العمالة وفي نفس الشارع المذكور ،تصطف بعض المحلات
التجارية والخدماتية، غير أن المركز والمعروف ب”الكانتينة” والذي كان يقصده الناس من كل احياء المدينة وضواحيها بل من باقي جهات اقليم ورزازات ،كان ضروريا للتواصل وللتبضع وقضاء بعض المآرب الادارية والتفسح احيانا ،فأمام حانةوفندق”مدام بارا”(Parent)هناك اليهودي”زوهار” (Zohar)المصوربالطريقة القديمة، وكان بجواره اليهودي”اسحاق”(Isaac) بائع الاثواب والملابس ،وغير بعيد عنه اليوناني “مسيوانطونيو”(Antoniou) المصور بالطريقة الحديثة ،اما الفرن والمخبزة فعند السوسي الذي كان عقاره يضم أيضا مقر الدرك الملكي (قبل بناء مركبهم الجديد ) الذي تحول الى” فندق ” تقليدي ومقهي “هوبا” بائع (الحريرة) ومحلات احداها للفرنسي”جوزف غو” (Joseph Roux)مصلح المدياع ،اما الحلاقةفهناك “بو ايدية” البودلالي وصالون “اكادو”(Aguado) وفي قفا ورشة” مسيو بيرجي”( Berger)نصبت خيام لبيع الخضروالفواكه الآتية خصوصا من مراكش او سكوره وايت بودلال ،كان ذلك قبل بناء” المارشي”أي السوق المركزي، وفي نفس الزقاق الموازي للشارع ، وبالقرب من منزل” آل جناح” هناك ما يشبه كنيس مخصص للتعبد وتعليم صغار اليهود ،اماالفنادق والمقاهي والحانات فقد احتكرها النصارى ابرزهم “ديمتري” Dimitri)وأخوه”كريستوف”Christophe)وابنه بالتبني “نيني” (Nini)، كان ديمتري محتكرا توزيع كل شيء في المنطقة من التبغ الى المشروبات الغازية والكحولية …غير أن “الفندق” التقليدي الأكثر شهرة في المدينة لصاحبه الحاج”الغفاري” والذي كان يسيره ويسهر على راحة رواده “البريق”،فقد كان فندقا بسيطا بغرف وخوابي ماء وحصير، بافران فحم وطناجير وبراريد..تدخله فتلامس خياشيمك روائح القهوة “والكيف” والشاي والطبيخ..كل زبون حر في اختيار توابله وخضره في كل حين ..وينبغي الا ننسى مولاي احمد بائع الاسفنج والحليب، والشركي صاحب الطاحونة قبالة “لحسن السكليس” واذا تدرجت في الطريق المقابلة له والمؤدية الى اعدادية ولي العهد، ومحطة الأرصاد الجوية و”الديور الجداد”،في طريقك الى هناك ستجد مقهي “مولاي بوتغيولت” (صاحب الحمارة) ، ومقبرة النصارى قبل ازالتها ونقل بقايا عظام امواتها خارج المدينة، واعلاها ساحة ملحقة بالسوق المركزي فيما بعد.
كنا بعد ان اصبحنا يافعين، نجتمع نحن الاقران فندخل حمام الاحباس في راس كل سنة ميلاديةلعدة أعوام ،نتحمحم ونتفكه ويجرب كل منا صوته الرخيم ،كانت اصواتنا كورالا فوضويا يستفز المستحمين الاخرين،وحين تصل الساعة الثانية عشرة بالتقدير ،نقوم بمعانقة بعضنا متبادلين التهاني احتفاء بالعام الجديد وبجسم نظيف
ومن الأحداث المرتبطة بهذا المكان،إننا في احدى الأيام كنا واقفين قرب بابي الحمام و الفرن ،فاذا برجل ياتي، عرفنا فيما بعد أنه السيد”باركي” فبدأ يحدثنا عن الفراغ الروحي لدى الانسان ، وعن زوال الدنيا،واهمية العبادة في نقاء الروح والذات…بلباقة وأدب، ثم التمس منا مصاحبته لحضور لقاء مع أناس قال بأننا نعرفهم أو سنتعرف عليهم وبعون المعين القدير،حضرنا اللقاء وسمعنا الأمداح وراينا من يحرك راسه ومن “يجدب” ومن يفقد وعيه…غير اننا لم نفهم المقصود ب” هو هو..هو هو..”(بضم الهاء وفتح او تسكين الواو) ومن هو الشيخ العباس.. وبعد احتساء الشاي ،انتهت الليلة بوليمة،وعرفنا اننا كنا في منزل احد مريدي الطريقة البودشيشية ومؤسسيها في ورزازات.
هذا وقد ذكرني حمام وفرن الاحباس بالمكان قبل بنائهما،كان عبارة عن ساحة بها حفرة عظيمة /مزبلة يلقى بها ما فسد لدى بائعي سوق الخيام المشار اليه اعلاه ،وفضلات ساكني ما كان يعرف بالخيرية،حيث كانت أسر مستقرة في غرف لم اعرف عنها اي تفصيل،كانت هذه الحفرة موطنا للحشرات والعقارب وخصوصا الجردان ،فاعتاد بعض الاقران اصطيادها وصب البنزين عليها ثم اشعال النار فيها،. وكان زعيم هذه العصابة هو السعداوي “ولد البوليسي”الملقب ب”بوقال”
وأنت تسير في اتجاه القباضة ومحطة حافلات بنحمو ستجد مقهى “مدام ماريوس”(Marios) التي رحلت عنها صاحبتها تاركة إياها بدون من يرعاها ويحرسها،وقد كنا ندخلها من نافذة خلفية،فنجلس على كراسيها مستمتعين بعلب عصير المغامرة وقنينات المشروبات الغازية الخاصة بتحقيق الذات، والتي تركت يتيمة في المخزن والرفوف .
إن الغريب في الأمر أن علاقتنا بالقنينات تقودنا الى سرقاتنا لها من فندق “الجيت”المصنف رقم واحد والفريد في ورزازات ، فقد كنا نتسلل من قفاه والخوف يجتاح كياناتنا..!! قد ننحني ونختبئ بل قد نزحف بهدوء وصمت
حتى لا يتنبه الحراس الى وجودنا،وحتى نصل الى عزيزاتنا
القنينات،نملؤها في كيس ،برفق لنتسلل من جديد نحو الخارج..كم كانت فرحتناعظيمة حين نصل الى متجر “ديمتري” فنبيع ما سال بسببه عرقنا ،متجهين نحو دكان
اليهودي” موشي” (Moché).لاقتناء اقراصا محلية “الفانيد” و “مادلين”
(تلك الكيكات المعبأة في الورق الشفاف) او بسكوتات العلم،
بلونها الأحمر والشهي .ليسيل لعابنا في هذه المرةوليس عرقنا
من هنا ،وبعيدا عن غطرسة القيم، وما ينبغي أن نكون عليه من أخلاق وشيم، فإن الواقع يفرض عليك لتندمج أن تكون مثل ومع اقرانك، مبعدا عنك اي تردد أو حرج،
فتقوم بما يقومون، وتغوص مع الغواصين ،في مغامرات لا
تنتهي، وأنت تعرف مسبقا بأنك ستعاقب من طرف والديك
او يقبض عليك لتصفع وتضرب وتسحل ..عن كل خطوة تخطوها في فضاء هذه السلوكات” المشينة”.
ويمكن القول أيضا ،ونحن هنا بثصددتناول ماضينا في ورزازات كتابة، أننا عندما نمارس تشكيل الكلمات وابراز المعاني والدلالات،بشكل صادق وواقعي،فلا بد من نزع رهبة الحقيقة عمن يكتب وايضا عمن يقرأ، والانسلاخ عن طابوهاتنا ،لاعادة النظر في مفاهيمنا ورؤيتنا للعالم ،وبالتالي استفادة ابنائنا من اخطائنا،لذلك اقول بأن المغارة
التي كانت في طريق” الجيت،” وباقي مغارات شعاب ورزازات ،امكنة تمارس فيها طقوس” جلد الجلد”وليس سلخ الجلد ،كانت هده العادة الطفولية بداية كل الاحلاام ،سفرا في عوالم الوصال ،وصال الذات بالموضوع، تمثلا لعلاقة شهرزاد وشهريار،كان عملية تحرر من القيود بوضع الذات بين بين،فقد كان الطقس تمردا على محيط يعتبر فصل النوعين من ركائز الاخلاق والدين .
يتبع
ادريس البوکيلي الحسني