بقلم: سعيدة بنت العياشي
عندما زرته في ذاك اليوم كان الصديق الاحرش يمر بوعكة صحية جديدة ألزمته الفراش، كنا قبلها قد بدأنا في تسجيل بعض الحلقات من مذكراته. لكن وضعه الصحي لم يسمح لنا باستمرار التسجيل، فحتى الكلام كان متعباً له. كنت أحثه دائما على المقاومة والتشبث بالأمل، وهو يعرف جيدا كيف يقاوم بل كان مقاوماً عنيداً وانساناً شجاعاً. كل مرة كان يضع هدفاً امامه يجعل منه حافزا للتحدي، تحدي مرض لعين أرهقه ليبقى شعاره في الحياة: “ويستمر الحلم ويستمر الأمل ويستمر الصمود وتستمر المقاومة” تلك المقولة الشهيرة التي كان يختم بها كل تدخلاته وحتى تدويناته .
أي مناضل هذا الذي يتحدى كل شيء من أجل الحياة ومن أجل حلم يأبى النسيان؟ تماما كما فعل حين سهر على انجاز كتاب ” ذكرى الوفاء” التي نقش حروفه بتعب وأنين وصداع لا ينتهي وسعال عنيف كاد يخنقه مرات عديدة. لم يكن أمامي سوى انا اتطوع لمساعدته في تصفيف فصول الكتاب والسهر معه حتى يحقق هذا الحلم الجميل فقد كنت أرى في عينيه بريقاً من السعادة وهو يتحدث عن رفاقه ورفيقاته وعن خصالهم وعن مناقب من رحلوا منهم. عرفت مدى الحب العميق الذي يكنه لكل هؤلاء، سألته مرة عن سر هذه العلاقة مع الرفاق اجابني: عندما خيروني إما التنظيم او الرفاق قلت لهم بدون تردد لقد اخترت رفاقي. وما ندمت على ذلك.
الصديق أعطى موعداً محدداً لإصدار الكتاب فعمم الخبر بعد اتفاق مسبق مع الحبيب بنمالك الذي شكل له السند والدعم اللامتناهي في كل الظروف لأن علاقتهما تجاوزت أسوار السجن وسنوات الرصاص لتصير أكثر عمقا بل بصما معا على اتفاقية توأمة الروح النضالية والانسانية الى آخر رم
انجاز كتاب لحفظ الذاكرة من حجم ذكرى الوفاء ليس امراً سهلا بل مرهقا جدا لشخص يقاوم المرض ويريد تخليد ذكرى من رحلوا من رفاقه كإنجاز يذكر به. ومن أجل ذلك كانت له اتصالات مكثفة مع العديد رفاقه فهو يريد توثيق شهادات عن كل من رحلوا من مناضلي تنظيمات اليسار. لكن لمدة أسبوعين لم يتفاعل مع المشروع إلا القليل فغضب الصديق من طول الانتظار والخوف من دخول دائرة الشك..
حقوق الانسان
السعال ضيق عليه الخناق ومع ذلك كثف اتصالاته من جديد ليشرح ماذا يعني تخليد ذكرى مناضلين رحلوا وكانوا يحلمون بالتغيير وبمجتمع تسود فيه الحرية ويعيش الانسان فيه بكرامة، يريد جمعهم في كتاب حتى لا يصيبهم النسيان. وما حز في نفسي كثيرا تلك الاتصالات الكثيرة التي كانت ترهقه ويرفض طلبي ان يتوقف على استعمال الهاتف ولو لفترة مؤقتة على الأقل حتى يستجمع انفاسه، فأحيانا يكون النقاش مع بعض المناضلين خارج الاطار: لماذا تم اختيار من رحلوا و ليس من هم على قيد الحياة و لماذا تمت دعوة الجميع بل يجب الاقتصار على مجموعة معينة واكتشفت وانا اتابع بعض الحوارات ان هناك من مازال يغني “انا وحدي نضوي البلاد” بمعنى اقصاء الاخرين في الوقت الذي يجب التشبث بالقيم المشتركة وتجاوز الخلافات الثانوية التي تزيد من تمزيق لحمة اليسار . ووسط تلك المتاهة كان الصديق يشرح ويعمق الشرح في محاولة لأقناع المتصل بالأهداف السامية من حفظ الذاكرة يستمر في الشرح الى ان يسكته السعال اللعين ولا يقوى على الحراك. هذا الوضع جعلنا نقلق على صحة الصديق لاسيما مع تطور المرض مما جعل بنمالك يتخدل من جديد ويحسم الامر قال لي: سنعمل كل شيء من أجل أن يحقق الصديق حلمه فأي عرقلة قد تكون نتائجها كارثية عليه. ” لهذا وطيلة انجاز الكتا لعب بنمالك دور الاطفائي لكل ما من شأنه تكدير أجواء الصديق والتأثير على صحته.
وأيضا حل كل المشاكل التي قد تعترض اتمام الكتاب لاسيما من حيث الاتصال بعدد من الرفاق وحتهم على المشاركة وكتابة شهاداتهم وقد سهر بنمالك على توفير اللوجستيك من أجل طبع وإخراج الكتاب. وهنا لابد من ذكر الرائعين بلوط والحبشي الذين كان لهما دور كبير في كتابة فصول كتاب ذكرى الوفاء حيث قدما مجهودهما بسخاء كبير.
تفاصيل كثيرة هنا لا يسعها المجال في هذا المقال المتواضع وقد أعود إليها في مقال آخر لأن ذكرى الوفاء كانت تجربة فريدة من نوعها وأظهرت معنى ان يكون الانسان ملتزما وأن الالتزام كمبدأ في الحياة يكشف معدن الشخص ومدى نضجه وليس مجرد شعار يعبر عن ترفٍ سياسي.
المهم وبعد مجهود خرافي خرج الكتاب الى الوجود فرح الصديق كثيراً وكتب لي حينها: لقد أكملت الآن مهمتي.
كان يقصد مهمة الكتاب فقط، لأنه مباشرة بعده دخل في تحضير حفل بهيج جمع كل رفاقه وكل عشاق الحرية في لقاء باذخ لتقديم الكتاب لكن لا أحد كان يظن أنه حفل وداع الصديق.
في ذاك اليوم الذي زرته فيه كان ممداً على السرير لم يقم لاستقبالي أمام الباب تسبقه ابتسامته وهو يردد لازمته المعهودة: “صافي كنا هانيين دابة جانا التبرزيط” وهي مقدمة ترحيبية لتبدأ رحلة يومين رائعين في ضيافة الصديق وامينة بين نقاش سياسي رزين ومشاكسات رياضية وضحك ملء صفاء القلب. فالساعات مع الصديق لا ملل فيها بل كلها متعة واستفادة. كان موسوعة من المعلومات والمواقف وعشق بلا حدود لرفاقه واحبابه ولزوجته وأبنائه واحفاده وعشق جارف لمدينة سلا. وعشق أبدي للقضية قضيتنا جميعا: فلسطين.
وهو منهك وممدد على السرير لاحظ مدى تأثري بحاله وقال: تنظرين الآن إلى حالتي وكيف أصبحت. اكيد ستكتبين كثيرا عن هذه الحالة لكن عندها اخبريهم كيف كان الصديق انساناً يقاوم_ في إشارة الى موقعي “انا انسان” – صراحة كان الوضع مؤلما جدا لاسيما لمن تعودت على حركية الصديق ونشاطه وضحكاته وهو يحكي طرائفه داخل السجن و خارجه. بقيت مصدومة كيف لجبل لم تهده أعثى اساليب التعذيب ولا برودة الزنازن أن يهده المرض بهذا الشكل ، في لحظة اثارني قميص “تي شورت” أخضر كان يرتديه. التفتت اليه وانا اضحك في محاولة اخفاء تأثري وهمست له: “هذا القميص جميل جا معاك ايوا مبروك عليك أصبحت رجاوي، وديما رجا ” في محاولة فاشلة مني لإخراجه من دائرة المرض وجره نحو مشاكسة رياضية جديدة، كما هي عادتنا دائما ، لم يستطع، بالكاد جلس ليخبرني قصة القميص الأخضر. انه قميص خاص بدعم فلسطين اشتراه من معرض دولي تضامني مع القضية الفلسطينية في باريس في حملة تضامنية تطالب بمقاطعة المنتوجات الاسرائيلية لوقف الغطرسة الصهيونية ضد الأبرياء من الفلسطينيين، وفي ذاك اليوم لبس القميص احتجاجا على استمرار الاحتلال الصهيوني في قتل الشباب الفلسطيني و الاستيلاء على المزيد من الأراضي فهو يتابع كل التفاصيل اليومية لقضية فلسطين وكفاح شعبها من أجل الحرية وطرد الاحتلال الغاصب .، لبس القميص تعبيرا على تضامنه مع فلسطين لأنه لا يستطيع الخروج في وقفات احتجاجية تضامنية كما كان يفعل دائما، قال:” ها انت ترين حالي لا استطيع الخروج لكني اتضامن بطريقتي الخاصة ، لكن انت تسطيعين فعل ذلك وانا مازلت احتفظ بقميص آخر سأقدمه لك هدية ارتديه نيابة عني في المسيرات و الوقفات القادمة تضامنا مع فلسطين “. وطلب من امينة احضار ذاك القميص الذي بقي محتفظا به منذ سنوات طويلة. وتنفيذا لوصيته رفعت قميص الصديق عاليا في أول وقفة تضامنية مع غزة في أكتوبر الماضي اثر بداية العدوان الغاشم والهمجي على قطاع غزة .
هي غزة التي تعيش منذ شهور أقسى فصول الإبادة الجماعية التي عرفها التاريخ الحديث، إثر الحرب القذرة والهمجية التي يشنها الكيان الغاصب مدعوما من زعيمة الشر العالمي أمريكا. حرب وحصار كامل على القطاع، أدى إلى الزجّ بالسكان في دوّامة غير مسبوقة من الحرمان والفقر المتعدد الأبعاد، وإلى فداحة الخسائر في الأرواح وهول أعداد الجرحى، وفقدان رأس المال البشري ازيد من 100 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح وتدمير البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية بعد تدمير 80 في المائة من قطاع غزة وجعلها مناطق غير قابلة للعيش لعقود قادمة. امام انظار عالم جبان وشعوب ثائرة ضد العدوان. وهي كارثة إنسانية على كافة المستويات. ما يجري في غزة يورق كل من له ضمير حي في العالم والذي خرجت شعوبه للتنديد بالمجازر المرتكبة في غزة ضد الأبرياء من المدنيين.
وفي الوقفات والمسيرات التي نظمت في الرباط كنت أشارك وكان معي قميص الصديق بل كانت روح الصديق الثورية والطوافة الى الحرية حاضرة أيضا. كنت ارفع القميص عاليا حتى يراه الجميع مكتوب عليه الحرية لفلسطين و على ظهره قاطعوا إسرائيل مع توقيع الصديق :”ويستمر الحلم ويستمر الأمل ويستمر الصمود وتستمر المقاومة”
فلن تموت قضية عشقها كل أحرار العالم .
ولن ينسى التاريخ رجالا صدقوا في وعدهم وما أخلفوا الموعد وكان الصديق الاحرش واحداً منهم.