2- تازاخت ..الهرم المنسي
وأنت فوق ربوة مقر عمالة ورزازات، متطلعا إلى المدينة/القرية،يتبدى لك شارع رئيس ويتيم، تعانقه بنايات مع احياء صغيرة محادية،وفي قفا الربوة، تستمتع بضفتي “درعة”،أطول واد في المغرب، فضاء موشح بحقول اشجار النخيل والورديات البلدية،الشارع والواد خطان متوزيان لا يلتقيان، إلا انهما يشقان معا تلال وشعاب ورزازات،وغير بعيد عنهما،هناك هضبةمستوية وظفت لنزول واقلاع الطائرات الصغيرةالخاصة،سميت
ب”المطار”.وفى افقه ومن ورائه، تتراءى لك بشكل ضبابي واحيانا سرابي تلة عظيمةشاهقة ممتدة.
“تازاخت”.
في تلك الاعوام لم يكن شهر رمضان بالنسبة لنا كاطفال يانعين يقترن بالصوم وطقوس العبادة والصلاة ،اكثر من اقترانه
بمغامرة زيارة فضاء غريب ومجهول،لا يكتمل الصوم او هذا الشهر؛ الا وقد زرنا “تازاخت” مرة او مرات…كانت فضاء للمغامرة والسؤال،مجهولة لدينا ،اختلفت حولها الاجابات والفرضيات،كان مجرد النطق باسمها يحرك فينا العقل والمخيلة والإحساس،خصوصا وان قدراتنا بسيطة بساطة الطفولة والثقافة السائدة آنذاك، زيارتها عندنا كانت بدافع امتحان الذات واقتحام المجهول ،لذلك كان الاستعداد للرحلة اليها محكما وكبيرا ،يحتاج الى تنسيق واستراتيجية ،يتمان عبر اتفاق وتواصل ليس بين قرين أو قرينين، بل مع اقران،فالمكان في غير شهر الغفران،مسكون بسكينة وسكون،مفعم بالجن والعفاريت والأرواح.كان هذا الاعتقاد سائدا بين الأنداد متداولا لدى العامة في ورزازات.
يتم الاتصال ويعقد الاتفاق…تبدا رحلة الأقدام بنعال بلاستيكية متينة البنيان،تعبر الوادي ، تتجاوزالصخور والتلال،تدوس نبات الحرمل ،تقلب الحجارة،تجمع العقارب
الصفراء،تحتظن أفق “الواد المالح” اللامتناهي،ها نحن نقترب من “تازاخت” من قدمها ،نستنشق صمتها ونتحسس رهبتها،كان الخوف ينتابنا، فنتظاهر بالشجاعة قبل ان نصل الى غايتنا : ” تازاخت” مغارة،هرم منسي عمقا ومسافة،قبل بدء الدخول،ننحني بإجلال،نركع…كان باب المغارة عبارة عن شق أفقي منبسط،كنا ننبطح للدخول فرادى، ليتقبلنا هذا العالم الرهيب،نتحول زواحف فنزحف، فتحتك مسامنا بالتراب والحصى قليلا قليلا،نتجاوز “إمي نتازاخت” -اي فم تازاخت-
الى بلعومها ،كنا بولوجه نغامر، فنشعر برهبة تلبسنا ،وهول يحتوينا،نتقدم في الصدع ، نتحمس .نتشجع…نبدأ التسلق في البلعوم،سفر في حلكة السواد، وسكون مخيف تكسره اصوات وهمهمات الاقران وهم صاعدون في شكل سلسلة عمودية،بصيص شعاع
يخترق سواد جفوننا من عل،ينفذ الى الافئدة يزرع الأمل،البصيص ينمو ،يتحول الضوء خافتا منسلا فيوجهنا ،ها نحن قد وصلنا قلب المغارة،سراديب رطبة ومظلمة،منحوثة بعناية، منتمية لعهود متجذرة في الارض والتراب،غارقة في أعماق الكون وانفاس الانسان البدائي ،غرف مطلة على أفق يلفه سراب لا متناه، يلون رؤاه سواد غربان تائهة في سماء مائلة الى الصفاء.
كان الدخول أو الخروج من رحم “تازاخت” الاسطورية ،يعيد كل منا إلى جنينيته وبداية ولادته،كأن الارض /امه تعصره اضطرارا بين فخديها قبل خروجه،كأنها تختبر مدى قدرته على المقاومة والتكيف والبقاء في محيطه وبين انداده واقرانه،كنا هناك نتصاعد في الدخول للوصول كاوراق نبتة ،وفي تدافع كبراعم وردة،كل ذلك بعزم واصرار حماسيين.
كان حجنا ل”تازاخت” في شهر رمضان عبادة لاشعورية، لكنها موازية وعودة طقوسية إلى الارض التي تعصر ابداننا الصغيرة، تداعبهابغبارها وبحصاها كلما اتينا اليها ،وكلما كنا بين احضانها،كان الولع بزيارة هذا الفضاء العجائبي قد أبعد عنا نحن ابناء ورزازات الرهبة والخوف من المجاهيل، وصرف عنا الاعتقاد بغير المنطوق والمنطقي، وبغير المرئي والواقعي في كثير من المظاهر والوقائع الحياتية ،حتى يومنا هذا.
“تازاخت”كهف افلاطوني قديم منفتح على مجاهيل الذاكرة ،
و ملجأ لانسان قديم ،تاريخه سفر طويل لفهم كثير من الرموز،
وقهر النسيان ومقاومة قصور الذاكرة،فهي صامدة في عمق الايحاء، الممتد عبر الازمنة المتوالية في حلولية دائمة مع المحيط والكائنات والموجودات،كلما زرنا هذا الفضاء كان
يحاورنا برموزه ودلالاته ،بصمته وبصماته…كما انه يداعبنا بغرابته ووحشته، ويستفزنا باسئلته ،ندخل إياه فنتوحد والرهبة والاعجاب ،يدخلنا في عالم خارج ذواتنا، الموسوم بطابع رومانسي وتشكيل سريالي، غير محدد الوجه والتقاسيم.
باختصار كان اكتشافنا لهذا المكان حضورا في العالم المنسي البدائي،عالم مشاعية وسائل الانتاج،عالم سادت فيه المساواة
لان كهوف/غرف “تازاخت” متماثلة عرضا وارتفاعا وطولا.
هكذا فقد كانت معانقتها لنا تجعلنا كتلة من الاحاسيس والمشاعر العجيبة،أستنشقنا بين دراعيها رائحة الارض الفردوسية،واحتك ايهابنا بجسدها الهلامي، كاحتكاك ضوئها
بظلالها وظلامها،فرغم انها اسطورية إلا انها انفتحت على ذواتنا في زمن ليس بزمانها،فمن منا اليوم ومن غيرنا من علماء التاريخ والآثار ….سينبش في عالم هذا الهرم المنسي؟!!
“تازاخت”مجهولة الزمان والمكان، بما في دواخل دهاليزها وانفاقها من أسرار ضاربة في عماق الكون والتاريخ، والتي لازالت تثير الف سؤال وسؤال…
ادريس البوکيلي الحسني
الدار البيضاء 21يناير 1999