ورزازات….وسم في المسام 4 – دفء الاسفنج …دفء النكت
بقلم:ادريس البوکيلي الحسني
تقدم عمرنا وعمر المدرسة المركزية،فتضاعف عدد من تحتضن من كتاكيتها،فاحتاج هذا الكم الى دراع حاضن آخر،فجاء “سي سالم” من زاكورة لمساعدة “مسيو جانا”و”مولاي”.
سواد أضيف الى بياض وسمرة،نفس الخلطة البشرية شكلت كتلة المعلمين والمتعلمين انذاك، فسيفساء آدمية تتقاطع خيوطها لونا ونوعا، لهجة ولكنة وانتماء، لافرق في الأهمية بين هذه القطع،لأنها تتلاءم وتتواءم ،جميعها تشكلت فألفت تلك اللوحة الجميلة والرائعة ، المتعددة الالوان لمؤسستنا التعليمية زمن الستينيات، كان اختلافنا ثروة ،وقيمة مضافة ترتفع في سلم القيم من حول الى آخر درجات.
كانت قطع الفسيفساء تاتي من أرجاء وضواحي المدينة،من قلبها وكبدها ومن اقاصيها:
أ(الكانتينا،تاصومعت،تاوريرت،فضركوم، تابونت….) أحياء ودواوير تتفاوت عمقا ومسافة،آليات المجيء منها او الذهاب اليها كانت الأرجل والدراجة والبهيمة،من أقراننا من كان يسافر الى المدرسة مسافات ..بالجوارب او بدونها ،كل كان ينتعل حذاءه او حلومته ،يرتدي معطفا صوفيا او جلبابا تقليديا ،يقبل ويدبر وحيدا او منفردا ، مع أخته او اخيه،رفقة جار او زميل…
في الشتاء ،كان القر يمارس علينا جبروته وسطوته،في كل الصباحات كنا نخرج من اوكارنا ملفوفين باردية صوفية سميكة، رؤوسنا مغلفة وايدينا تحتمي بالقفازات والجيوب ..ورغم ذلك فالاجواء الباردة تبعث فيك احساسا ثلجيا يتسرب الى مسام جزيئات اعضائك،بل يسري في عمودك الفقري حتى النخاع،انذاك تشعر كما لو أنك ستتجمد..ولنخفف عنا ذلك ،كنا نسرع الخطى نهرول في الطريق الى أن نصل دكان الاسفنجي “مولاي احمد” فيتوقف بعضنا عنده ليتذوق صفره العجيني اللذيذ الساخن،اما البعض الآخر ،فكان يواصل طريقه انفة وكبرياء، بادعاء الشبع وارجاء أكل الاسفنج الى الغد ،او الى ما بعده ..كنا جميعنا نكره أصفار معلمينا،عاشقين لأصفار “الأحمدي” المقرمشة المنعشة، وعلى الرغم من ذلك فاجسادنا الصغيرة في مثل تلك الطقوس شبه القارية،لم تكن مكتفية بحراريات الفطور والاسفنج، فسعينا وبحثنا لها عن مكمل تمثل في حرارة النار التي أعادت لابداننا التوازن، كنا نسرع الخطى فنصل قبل الوقت الى المدرسة، وأمام رتاجها الذي كان آنذاك مفتوحا على الشارع الرئيس محمد الخامس،وفي الجهة المقابلة قرب الكنيسة ،كنا نتفرق تلقائيا مشكلين حلقات عشوائية بعد أن نجمع اليابس من القش والأغصان،فنوقد النار مستمتعين بلظاها في فضاء مشجر محاط بالقصب الأخضر، تفوح منه رائحة التراب البليل بالندى وعبير أوراق شجر الطرف والنخيل والزيتون والكالبتوس.
كان بعضنا يريد أحيانا اللعب بالنار فيهيج ما اوقدناه بسعف النخيل الجاف لتتشتت الحلقة شتاتا…يدق الجرس فندخل الساحة بنظام وهدوء،نصطف مثنى مثنى،يلتحق كل صف بقاعته رفقة مدرسه ، بعد الدرس وانتهاء الحصة ..نغادر القاعة الى الساحة، الخروج مختلف عن الدخول ،الاصوات صاخبة والحركة زائدة.. كل منا يبحث عن رفيقه او رفاقه.. هكذا تعودنا والفنا منذ التحاقنا بالمؤسسة..وحينما يكون الجو معتدلا ، تصبح طريقنا الى ديارنا فرصة سانحة للترفيه عن أنفسنا بالهدر والكلام الأجوف والبديء أحيانا ،كغيرنا كنا نتسلى بالنواذر والنكت والمستملحات..بعضنا يحكي ويتكلم أكثر، لأن اقرانه أقل ثرثرة، احيانا يقول احدنا أي شيء وحول أي شيء لنسترسل في الضحك،أو على الأقل نتظاهربالضحك ، بل نضحك على الذي لم يضحك…كنا نمزح ونستمتع ،نتمنى ان تطول رحلة الرفقة،خصوصا أننا لم نكن زملاء نفس الفصل أو المستوى …لقطات ومشاهد تتراءى حتى اليوم أمام اعيننا معلقة كمذهبات عصر الجاهلية، مبدعوها زملاء وأقران موهوبون في صنع النكتة وابداع وضعيات ساخرة ،وعرضها،بطريقة بديعة تجمع بين التشويق والضحك والإثارة ،ومن هؤلاء “قادر بن دروع” زميل وصديق يستحيل ان يسدل النسيان غباره على الذكريات معه ،علم من اعلام الطفولة ومشاهيرالمدينة،حضوره ذو قيمة في كل لقاءووليمة..”قادر”اسم على مسمى ، لانه بالفعل قادر ، يستطيع أن يرسم البشاشة على الأديم العبوس،ويحول البسمات الى قهقهات ، كنا نعتبره من فطاحلة الدعابة والنكت والمستملحات في مدرستنا المركزية انذاك. ومن الغريب ان الصدف اختارته رغم انفه ،ان يكون احيانا من شخصيات نكته ومسخراته، مما جعل “قادر بن دروع” قادرا أكثر على عرض المستملحة وتشخيص النكتة وذلك بشكل طريف ورائع،ومن مستملحاته الخالدة والمتداولة ايام زمان،ان أباه السيد “دروع” رحمه الله،كان في إجازة لم تكن موازية للعطلة الدراسية ،وبما ان “قادر” صبي صغير ، كان قد التحق قبل أقل من شهرين بالمستوى الاول ابتدائي،فقد ارتاى الأب اصطحاب ابنه في سفر دام اكثر من اسبوعين ، فكان غياب صاحبنا غير المنتظر مفاجئا للمعلم ، لانه كان من اكثر المواظبين على الحضور في المدرسة،وبما ان العرف والواجب يفرض على المدرس ضبط الحاضرين والغائبين في السجل الخاص بذلك،فقد كان كلما ذكر اسم “قادر” في بداية كل حصة ،قال التلاميذ : انه غائب يا استاذ ،وهكذا مرت ايام وتكررت نفس ردود الفعل..رجعت اسرة “قادر” فجاء الى المدرسة ،فدخل القاعة وجلس في مقعده دون اخبار المعلم ، بدأت الحصة كالعادة بالمناداة ،كان اسم صاحبنا في الترتيب وسط اللائحة ،وحين وصل المدرس الى اسمه قال:
-“قادر”غائب دائما؟
فأجابه صاحبنا بسرعة واقفا :
-لا،لا…راه جيت ااستاذ. !!!!
فرد الاستاذ عليه :
-آ اا..جتي. ..او علاش ما جتي نبوسو ليك اديك؟!!
مباشرة وفي تلك اللحظة قام “قادر” ببراءته وعفويته الطفوليتين من مقعده وتوجه نحو المكتب مادا يده ليقبلها الاستاذ ، انتفض الاخير في انفعال قائلا وهو يبصق على يد “قادر”:
-تفو،تفو على باباك،…سير تجلس الحمار. !!!!)
هذه مستملحة واحدة من مستملحات “قادر بن دروع”ا
العديدة والتي كان قادرا وبارعا في تشخيصها وتقريبها بالجسد والصوت متمكنا من اعادة المواقف بشكل هزلي….اشكره بالمناسبة وفي الوقت نفسه اعتذر له ولقراء هذا النص عن تقصيري وعجزي عن اعطاء نواذره ما تستحقه من الدقة في التعبيروالتصوير.
يتبع