يخترق مفهوم الذاكرة، كتمثل قيمي وكتراكم معرفي ، تاريخية الفكر الإنساني وشواهده الحضارية منذ فجر التاريخ، فليس هناك أقرب إلى الإنسان السوي، في فطرته ونضجه، من معين ذاكرته، كخط اتصال مباشر بماضيه، وكحد انفصال وتميز عن الغير، وشخصنة فرادة جامع هويته الأصلية و المكتسبة، في ديمومة تفاعلهما وتلاقحهما الاجتماعي والثقافي الشخصي، وهكذا تنتصب الذاكرة في المخيال الإنساني، فردية كانت أو جماعية، عصبية أو قومية ،كمسكن افتراضي لماضي متحرك، متنقل ومتجدد، بقدر ما تكتسب جدواها كمخدع سري، لهواجس هذا الماضي وأفراحه وأحزانه و تشظياته و مكبوتاته، فالذاكرة في ديناميات وصيرورات تقادمها وتجددها، انكفائها واسترجاعها، تعيد تشكيل مجال اشتغالها وحوافزه لدى الجماعات البشرية، كمضجع تلاقح و تبلور للهويات المهددة بالفناء والانسحاق، وكخميرة حية لتخصيب وتخليد ما يسمو إلى قيمة المشترك من الأقراح أو الأفراح، وكبؤرة كذلك لتوليد موقف الأفراد والجماعات، المضمر أو الصريح، الموجب أو السالب، من مخاطر وتهديدات الضمور والتلاشي أمام استراتيجيات السلط في الاجتثاث والابتلاع، واحتمالات استيلاب الهوية والنسيان؛
وتأسيسا عليه، ليس غير الذاكرة كنشاط إنساني واجتماعي تواصلي، من ينحت العلاقة بأحداث الماضي والتباساته أو بأوهامه ومكبوتاته، خارج الإطارات الرسمية والمحافظة والأحادية غالبا لانتقائية كتابة التاريخ، فالجميع، على مستوى كوني عابر للعصبيات والثقافات والحضارات، يملك الحق في الذاكرة بالتساوي تقريبا، بفارق جوهري مفاده أن يكون قادرا على استرجاعها وصياغتها وحكيها وحفظها وتقاسمها ، واستنبات روح وقوة المشترك عبرها، مجسدة في بوتقة هوية جامعة لمعالم الشخصية، وهذا مجال تدافع لامتناهي لصراع الإرادات والقيم والأفكار واستراتيجيات الغلبة والإخضاع، و مدى قدرة الأنظمة السياسية القائمة على التدبير الديموقراطي للحق في التعدد والاختلاف، والقطع مع موروث الانتهاكات، واحتضان مبدأ سمو كونية حقوق الإنسان، التي يجعل جيلها الرابع من الحق في الذاكرة، حجر الزاوية في حماية واحترام الهويات، والاعتراف بخصوصياتها.
من منشورات جمعية سلا المستقبل