الرئيسية / boukili / شيطنة طفولية على ضفاف درعة

شيطنة طفولية على ضفاف درعة

ورزازات…..وسم في المسام 5- شيطنة طفولية على ضفاف درعة
بقلم إدريس البوكيلي الحسني

عصية ذكرياتنا وأيامها عن كل ضياع او نسيان، كان لهيبها يسطو علينا كعواصف نار، الشتاء كان قاسيا ، في مساءاته عجاج يعمي الأبصار، رياحه اطلسية قارسة هوجاء

مخيفة كعواء الذئاب، نخشاها فنلج بيوتاتنا نحن الاطفال

تاركين وراءنا مبتدأ بدون خبر، هدرا أو كلاما فارغا بسيطا لم تكتمل دلالاته ومعانيه..

في هذا الفصل كنا نحلم أكثر مما نحيى أحداثه، فالدجى فيه يهيمن على وهج البياض، وحتى إن كان الجو

مائلا الى الاعتدال، فإننا نعرف أن الأحوال يمكن أن تنقلب

في أي آن ، وأحيانا بأشكال ملتبسة ومفاجئة، فحتى الفصول قد تاتي غير متعاقبة..لذلك كنا نحاول أن نصنع اللحظة ونعيشها في نفس الوقت، نستغلها حتى لا تذهب سدى مع العواصف، أو تتبخر مع الحر اللافح…باختصار كانت متعتنا لحظية ،لكن حلمنا كان كبيرا كخلاء ورزازات الساكنة جدا والمسكونة قليلا…

آنذاك وقبل بناء سد المنصور ،كانت المدينة محاطة

بحقول رحبة غناء، وبمروج ترتوي من مجاري واد درعة الطويل، فأنت تراه من بعيد يشق طريقة بين واحات من شجر وجريد ، فوق تلالها مداشر ودواوير من قصب وطين،فاين “تلماسلة”و”حبيب” و”غاليل”و”ايت بودلال”و”تدرميشت” …؟

يسافر الشتاء، فيقبل فصل الربيع، وقتئد تبدأ الطبيعة في الكشف عن زينتها، تورق الأشجار..وتخرج غلالها، وترجع

الأطيار من رحلتها ، تثمر الارض وتصفو السماء، فتحلو الحياة باللقاءات وكثرة المباريات بين فرق الاحياء، جلسات للضحك والمستملحات ، وأيضا للغيبة وللنميمة لقاءات ،تتعدد وتزداد في الصيف والمساءات والعطل درجات…

كان لفصل الصيف عند الأطفال واليانعين طعم خاص ،فقد كنا مسكونين بالرحلة والكرة والصيد والعوم في الواد، عاشقين تسلق التلال واكتشاف المغارات في الشعاب… فلكل حارة أو مدشر ، سواء في ” تاوريرت “، “تابونت”، “تاصومعت”،”فضراكوم” أو “السونتر”…عصابة أو اكثر..

مجموعات تتشكل بعفوية وتلقائية ، افرادها يخططون لمباراة أو مغامرة .كانت الخطط شيطانية، لكنها بريئة وطفولية، رائعة شفافة بدون مساحيق، فأفعالنا ومغامراتنا كانت عند بعض الكبار عادية ،وعند الآخرين “بسالة” وسوء تربية، أما عندنا فهي بديهية ووجودية، هي إثبات للذات بين الأقران والأنداد.

نبدأ الخطة فنستيقظ باكرا منطلقين عابرين درعة الى الضفة الاخرى ومعنا كلبنا “درواس” الذي كان يصاحبنا في كل مغامراتنا ،نتوغل عميقا في الحقول، كنا نعتقد أنها ممتدة بلا حدود، نستمتع بفضاءاتها، ونكتشف خصوصيات موجوداتها وكائناتها :حشرات وزواحف ،طيور ونباتات وزهور، ورديات وغير ورديات من عالم الأشجار.لقد كنا “مشائي”زمانناواقراننا ،نتفسح في المروج نتسلق بأبصارنا آفاقها، تمور تمتص ثدي النخيل المدلى وهي في عناق مع السعف وخيوط الضوء في الظلال، وتحت اقدام النخل، هناك التوت والخوخ والمشمش ،وهنالك الليم والرمان والكرز والتفاح…اشجار نشرئب إليها بأعناقنا الصغيرة، وهي مثقلةبغلال يانعة تجذبنا الى قطفها من بعيد برائحتها ، كنا نرنو اليها في لهفة جامحة للثمها وتذوق حلاوتها،لأكلها بل لبلعها ،نسرع لخوض المغامرة فاللعاب قد غزا غمار أفواهنا ، ومسافة الرحلة أفرغت المعدة والأمعاء ،والجوع وصل الى أقصى مداه…آنذاك نشرع في التسلل بتقدم أحدنا لتفقد الأحوال،ثم يتبعه الآخرون، دائما بهدوء عجيب ..نتخابر على اصحاب وحراس البساتين في تفاعل بالإشارة والصمت والعيون ، وتارة بالصفير ، وقائع علمتنا أساسيات لغة الجسد وفن الميم، كنا في كل اكتساح يقظين حذرين، لكن

احيانا يضبط أحدنا متلبسا فيكون عاقبه الضرب والصفع والخبط وكانوا رغم ذلك متسامحين،لهذا سرعان ما تعود شيطنتنا الى عادتها ،غدا أو بعد حين، اما آباؤنا المبجلون وغير العالمين بأفعالنا، فنصيبهم السب والشتم في كل خرجة من خرجاتنا.

مغامراتنا لم تكن متشابهة ،كل واحدة لها خصوصيتها حسب الزمان والمكان ومزاج الأفراد المتفاعلة والفاعلة

قي مسار الحدث أو الأحداث ، قد نقتحم البستان بهدوء حين نكون واثقين أن لا أحد سينغص علينا استمتاعنا، وإشباع مبتغانا، آنذاك نجني الفاكهة اليانعة برفق عجيب ،كنا نخاف ازعاجها أو ايداءها قبل أن تصل الى افواهنا المملوءة بمياه التلذذ والتشهي…لكننا احيانا نتصرف بهمجية

وغوغائية، نكون كالجراد ،نأتي على الباكور والناضج من الغلال بنهم غريب كبطن شره رغيب، يبلع ويستوعب كل شيء وأي شيء… ومن أكثر الذين تضرروا من غزو واكتساح الشياطين لبساتينهم “دا حوسا”و”دا حبيض” وهذا الأخير ،كان خماسا ومسؤولا عن كل حقول “الحاج الغفاري”رحمهما الله… رجل داكن البشرة متوسط القامة في عقده الخامس ، معتاد على وضع قبعة من سعف النخيل “تارزة” صوته جهوري ،من بعيد كنا نسمع حواراته مع مساعديه ،ربما لبعده عنهم وتواجدهم في فضاء مفتوح، غير أن سبه وشتمه لنا لا يكون الا بالمازيغية المصحوب بقدفنا الطوب والحجارة،لأبعادنا عن حقوله .

حين تبدأ درجة المحرار في الارتفاع ،ويشتد لفح الصيف في ورزازات ، فلا ملجأ لأطفالها ويانعيها إلا ضفة واد درعة السخية المعطاء، كانت الفضاء الأوحد لكل فسحة أو سباحة أو ترفيه في هذا الفصل القاسي، لقد عوضت “كلتات”(برك) النهر خصاصهم وحرمانهم ، كانت في رأيهم صالحة للعوم والصيد بل للغوص ،فكانت كل جماعة تحاول أن تسبح في البركة الأقرب والأنسب قامة وسنا ،فعرفت بعضها بسبب كبرها وعمقها الذي تجاوز أحيانا المترين حيث كان سباحوها غالبا ما يكونون من اليافعين الكبار ،ومن أشهرها “أوقجي نوداي”(حفرة اليهودي) بمدشر “تلماسلة” و”اوقجي نحمو (حفرة حمو) .وايضا “الكبيون” قرب حي “تاصومعت” حفر ماء لا تقبل التحدي والعناد،فكل مغامرة ينبغي ألا تتجاوز الحدود ،فالغطس والعوم فيها خطير ، ومن أبطال هذا المكان (زاكي/بوقرن/زاكور…)كانوا من أمهر السباحين والغواصين ،يصطادون الأسماك وافاعي الماء من أعماق ضاية / كلتة “الكابيون” حقيقة كانوا شجعان زماننا الجميل، فركوب الرؤوس خطير والغوص في الحفر صعب كثير .

كانت طريقة السباحة في واد درعة مختلفة عما هو معروف في الاولمبياد، عرفت باسم “الدردوز” نوع ناجع في العوم ضد التيار، طريقة شبيهة بعوم الكلب تعلمناها قبل تعلم غيرها بمسبح “لاميكال”(الودية) الذي كان ناديا لفرنسيي الاستعمار.

كان من العادي وأنت تسير وضفة االنهر ،ان ترى أطفالا يسبحون وبعضهم أو كلهم بدون ساتر أو ثبان يتمرغون في رمل خشن مخلوط بالحصى والثرى،مستمتعين ببرودة الماء ،ملتحفين أشعة الشمس متأملين زرقة السماء.

ومن الطريف وأيضا من البديهي ان العوم كان يفرغ طاقاتنا وبطوننا فكنا نصعد حافة الواد لنتبستن ،نأكل ما يؤكل وما لا يؤكل،يانعا أو أخضر ،فقد التهمنا الفول بقشوره والجزر بكل أنواعه والبطيخ وحتى البصل.

كنا نهوى البحر فكان العوم في واد درعة متعة، حمام شمس وتطهير قمر ،كان سفرا بالمخيلة الى مخيم “تاغزوت” ويم “الجديدة” أيام كان التخييم نصف شهر بالتمام والكمال ، قبل نهج التقفير وتقويم الهيكل…

كان فصلا الربيع والصيف فرصة لممارسة هواية صيد الأطيار الآتية لاخذ الراحة والاستمتاع بدفء فضاء وصفاء حاضنة الشعاب ورزازات، المفعم بهدوء وسكون لا تخترقه إلا أصوات النقيق والزرزرة والحفيف والشقشقة والزقزقة والهديل والخرير…عالم تحتضنه الحقول الغناء ،فقد عشق الكثير منا صيد الطيور في رحابه، فتتبعنا مواطنها ومسارحها ،وعرفنا ما يروقها من دود وحشرات،ومارسنا تقنيات نصب الشراك ووضع الطعم…ومن المعلوم أن المفضل منها ،لم يكن الزرزور او الخطاف،وإنما الهدهد والعصفور ،وقد اشتهر من بين الأقران لما له من دراية ومهارة وحظ في هذا المجال:

:”بوكطاية”من”لابيطا”والذي أتى من نواحي “أولوز” بتقنيات فريدة، و”ملالو الصغير” من حي “موبيل” صاحب الصفير الجذيب للطير والعصافير.

كان الصيد بكل انواعه بالنسبة لنا اختبارا للذات والوجود، واكتسابا للتحمل والصبر ،وتمرينا لتقوية الارادة ومواجهة الصعاب،إضافة إلى انه سفر رائع في عالم دواخلنا، كنا أثناء الصيد نتبستن وفي الآن نفسه نتأمل.. غير أن لقاءاتنا .كافراد أو مجموعات في فضاءات درعة الورزازية ،رغم أنها تنتهي بالود والتفاهم والاحترام ،الا أنها غالبا ما تبدأ بخصام وشجار وعراك، واحيانا بالايد والعصي والرجم بالحجارة مع الشتم والسب خصوصا اذا كان الأنداد من أصحاب الراس الصلد العنيد..

شاهد أيضاً

ورزازات…وشم في ذاكرة

– 1 – جغرافية الذات كما هي مدخل للرمل والنخيل والحجارة،هي مدخل للبساطة والذكرى والاثارة،كانت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.