سومية منصف حجي
بربطة عنق تدلت فوق حزامه وتجاوزته ببضع سنتيمترات، وسروال في خصام دائم مع حذائه، وحمالات تقي هذا السروال سقوطه بغتة، وسترة بأكمام قصيرة، وطربوش أحمر لا يفارق رأسه، يغطي تلك الشعيرات القليلة التي مازالت تقاوم في صمود زحف الأيام، هكذا يطل علينا محمد الجم فوق خشبة المسرح. يذكرنا منظره الكوميدي بالعالمي شارلي شابلن ولكن بصيغة مغربية أصيلة. طربوشه يحيلنا لسنوات الخمسينات عندما كان المغاربة يلبسون البدل الإفرنجية ويضعون الطربوش المغربي فوق رؤوسهم، إشارة لانفتاحهم على الحداثة والعصرنة وإصرارا على تشبتهم بالأصالة والهوية المغربية.
تقاسيم وجهه تجعلك تضحك دون أن يتكلم. حركاته بخفتها تستأثر على اهتمامك بحيث تكاد تنسيك باقي شخصيات المشهد. حركات تنم عن موهبة جسدية عالية، وكيف لا وهو الذي خبر دروب التمثيل وعرف بحدسه، قبل أن ينهل من تكوينه، كيف يستعمل حواسه ويسخر موهبته لانتزاع الضحكة من ملايين المغاربة، ومن تم دخول قلوبهم بلا استئذان. فهوما أن يظهر على الخشبة، حتى يتعالى التصفيق بحرارة وتتعالى ضحكات المتفرج في أرجاء المسرح في دروب المدينة العتيقة بسلا التي ازداد بها سنة 1948، تلقى أولى دروس الحياة التي لم تكن سهلة للغاية، بها عايش معاناة الطبقات الاجتماعية الضعيفة التي بصمت مساره ووجهت دفة اختياراته الفنية فيما بعد. اختار مهنة التعليم بداية، ولكنه ما لبث أن فهم أن رسالته التهذيبية والتوعوية تمر عبر قنوات التمثيل لا التلقين المباشر على كراسي الدرس. وأدرك أن متابعيه لا ينحصرون في عشرات المقاعد في الفصل الدراسي بل هم ملايين المغاربة الذين يتابعون عروضه سواء على خشبة المسرح أو على شاشة التلفزة. اختار الكوميديا له توجها فنيا ليمرر عبرها الأفكار التي كان يؤمن بها خاصة وأن العديد من مسرحياته هو من ألف نصوصها.
هو اللي “جاوجاب”، في “ساعة مبروكة”. هو “الرجل الذي” قاد “عائلة السي مربوح” بكل تميز. هو من أسس سنة 1975، مع ثلة من “وجوه الخير” فرقة المسرح الوطني التي تميزت بعطاء أفرادها وحرفيتهم المتناهية. “هذا أنت” كما يشار إليه، الذي قاد هذه السفينة في تجربتها الرائعة وفي جولاتها في كل ربوع مغربنا الحبيب، بل حتى في مجموعة من الدول العربية. فرقة صالحت المغاربة مع فن المسرح والفرجة المسرحية.
مع أصدقائه الفنانين، قال “العام طويل” وبرهن على أن إنتاجه الفني هو كذلك طويل، غزير ومتنوع. كان يقول لكل مغربي “سير حتى تجي” وستجدنا دائما في الموعد لنمتعك بأجمل الأعمال التي تظل عالقة بأذهانك مهما مر عليها الزمان، وكلما عاودت مشاهدتها تشعر بمتعة جديدة وتتذوقها بشكل مغاير وتستمتع بها وكأنها إنتاج جديد. وهنا تكمن عبقرية هذا الكوميدي والطاقم المبدع المرافق له، سواء في المسرحيات أو السلسلات التلفزية الكوميدية أو الأفلام السينمائية. لقد كان فعلا “قدام الربح” على الساحة الفنية المغربية بشكل عام، وكانت هذه الأعمال “شهادة حياة” على أن مسيرته الفنية “دابا تزيان”.
اجتمع فيه ما تفرق في غيره من حس فني عال وسرعة بديهة وقدرة على الوصول للمتلقي أو المشاهد الذي اعتاد على نظراته وحركاته وكيفية تنقله فوق الخشبة. وطبيعي أن يكون كذلك فهو يحمل اسم “جم” الذي يعني “معظم” الشيء أو “جله”، وهو فعلا كذلك، يتوفر على معظم مميزات الفنان الكوميدي الحقيقي. نجح فناننا في أن يخلق لنفسه شخصية استحسنها الجمهور وأصبحت لصيقة بالصورة التي كونها عنه، وبذلك، يحق لنا أن نلقبه ب”شارلي شابلن” المغرب.
عن تجربته المسرحية قال :”أنا أعشق الخشبة، وحبي للمسرح ليس له أي ثمن أو مقابل، وأسعد لحظات حياتي هي عندما أكون فوق الخشبة، وأستقبل ردود فعل الجمهور من تصفيق وضحك وتجاوب حي”.
ابتدأت رحلته منذ سبعينات القرن الماضي بمسرحية “السلاحف”، ثم تلاها رصيد غزير من الإنتاج سواء كممثل أو كاتب للنص المسرحي. الكل يعرف طبعا ما تعنيه العقود الأولى بعد الاستقلال، سنوات إرساء سبل الديمقراطية،
سنوات النضال من أجل حقوق الإنسان، سنوات غابت فيها حرية التعبير، وكان للمسرح حضوره القوي ودوره الفعال في تمرير الخطاب والوصول إلى عقول المغاربة وقلوبهم. في حين أن الفترات التي تلت ذلك، ابتداء من حكومة التناوب، عرفت تغيرا في المناخ الاجتماعي والسياسي وفي المشهد الديمقراطي عامة، واكبته فسحة أكبر للتعبير بخطاب مغاير، استعمله كل واحد من موقعه للمساهمة في بناء مغرب الكرامة والعدالة الاجتماعية.
اختار هذا الفنان طريق الكوميديا الساخرة، الهادفة، الموجهة للعائلة بكاملها لرصد الآفات الاجتماعية من خلال القضايا التي كان يطرحها خاصة على خشبة المسرح. قضايا تخاطب المواطن المغربي وتعكس نبضه لأنها تنهل من واقعه المعاش. فعلى سبيل المثال، في مسرحية “جار ومجرور”، قدم لنا الصورة المهزوزة للمرشح الانتهازي الذي لا يفقه شيئا في عالم السياسة وليس له التصاق بهموم المواطنات والمواطنين، ولكنه يريد دخول البرلمان بطرق ملتوية وبأساليب فاسدة لخدمة مصالحه الشخصية. استعان بخادمته المثقفة (وهنا إشارة لبطالة شريحة مهمة من المثقفين وحاملي الشهادات الذين يجدون أنفسهم مجبرين على ممارسة أي عمل وإن لم يناسب مركزهم الثقافي، من أجل لقمة العيش). أقول استعمل إمكانيات هذه الخادمة لتكتب له الخطابات التي سيوجهها للمواطنين والمواطنات لإقناعهم بالتصويت عليه، وأكثر من ذلك تعلمه كيف يلقيها لمحدودية مستواه التعليمي، وهذه آفة أخرى تتصدى لها المسرحية لتسلط الضوء على نوعية ومستوى فئة من البرلمانيين المتواجدين تحت قبة البرلمان. فعلا، هي قضية تفوقت الفرقة المسرحية في طرحها بشكل فكاهي رائع، ولكن بحمولة أخلاقية وسياسية ومجتمعية كبيرة.
وفي كل هذه الأعمال المسرحية على وجه الخصوص، كان يستعمل مجموعة من أساليب الكوميديا الساخرة من سخرية مباشرة لا تخلو من الانتقاد اللاذع والتهكم على شخصيات العمل الفني، إلى اللغز الكوميدي إلى الكاريكاتور. والنقد المستعمل في هذا الباب هو نقد بناء يهدف طبعا إلى تقويم اعوجاج المجتمع، لا إلى الضحك الساذج من أجل الضحك بل الضحك المبني على طرح القضية وتحليلها ومن تم الوصول لحلول لها، عادة ما يستنتجها المتلقي. ومن هنا، يتبين الدور الهام الذي يلعبه الفنان في تغيير المجتمع من خلال صناعة الفرجة التي تدخل البهجة على قلوب المتلقي وفي نفس الوقت تدق ناقوس الخطر حول مجموعة من القضايا.
أسلوبه الفكاهي جعل منه فنانا متفردا، متميزا ومبدعا خلاقا. أسعد الملايين من المغاربة وبصم خمسة عقود من التاريخ الفني ببلادنا. فكان له بدل التكريم الواحد مجموعة من التكريمات في مهرجانات مختلفة داخل وخارج المغرب. كما اختارته مؤسسة محمد السادس من أجل السلام والتسامح في مالي شخصية سنة 2022 تقديرا لتاريخه الفني المتميز ولما قدمه للفن الفكاهي في بلادنا وكذا لدعمه المستمر لمسرح الشباب عبر “المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب” الذي تنظمه جمعية “أصدقاء محمد الجم للمسرح” بتعاون مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل.
ويستمر العطاء الفني لهذا العملاق سواء عبر إسهاماته المسرحية أو التلفزية، وهذا شيء جميل ولكن الأجمل منه أن يفكر في تكوين الخلف وفي منح الفرصة لجيل الشباب ليبرز للوجود ويشق طريقه بكل تباث إغناء للساحة الفنية المغربية.
فشكرا السي محمد الجم، شكرا لكل عطاءاتك، شكرا للفرجة الجميلة التي تمتعنا بها، شكرا للسعادة التي تخلقها، شكرا للمتنفس الذي تمنحه، من خلال أعمالك الرائعة، لملايين المغاربة، وخاصة منهم من يعيشون ظروفا اجتماعية صعبة، ومع ذلك تنجح في أن تنتزع الضحكة منهم ومن أعماقهم، وهذا دور الفن الجميل الهادف الذي يفيد ويمتع ويهذب ويعلم.
مزيدا من العطاء، مزيدا من التألق، مزيدا من الفرجة الجميلة الهادفة.
من كتاب ذاكرة سلا و التاريخ الراهن