الرئيسية / سعيدة بنت العياشي / توحشت ريحتك يا ولدي

توحشت ريحتك يا ولدي

تعرفت على أمي حليمة في ظروف خاصة ، كانت نحيفة جدا وقد أنهكها المرض، تخرج حاملة كرسيا صغيرا، تستريح عليه، فبسبب ضعف أصاب قلبها العليل لا تسطيع السير لمسافة طويلة. صحيح أن المرض انهك قواها لكنه لم يستطع سلبها روحها الطيبة و المرحة جدا، أعترف أن لدي ضعفا شديدا أمام بعض الاشخاص أنجذب لهم بسرعة لاسيما من يتقاسمون معي روح النكتة و هستيريا الضحك، و لو على ظروفنا “الكحلة”.


أمي حليمة هي صديقتي و تراني ابنة أخرى لها. مع الأيام أصبحتُ بئر أسرارها و بحر همومها . كلما ضاقت بها الدنيا تحمل جسدها النحيف وتطرق الباب. ودائما أفرح جدا عند رؤيتها. فجميل جدا أن تشعر أن ما يربطك بالإنسان هو الانسان بذاته تفرح معه و تحزن ايضا معه بعيدا عن كل الماديات والحسابات و الخلفيات التي تعقد العلاقات الانسانية. كلما جاءت امي حليمة لا اسألها عن الظروف التي أعرفها جيدا؛ بل نتبادل الحديث عن أشياء بعيدة كل البعد عما يعكر المزاج. فأحيانا كثيرة يهرب المرء من نفسه و يتيه بحثا عن ملجأٍ يفرغ فيه همه ، او يبحث عن شخص يستمع إليه فقط يستمع لا يريد شيئا آخر. فكانت جلستنا عبارة عن تقشاب و اعادة سرد قصص مضحكة مررنا بها. كنت استمتع كثيرا معها وكانت كلما اكثرت من الضحك تقول لي ضاحكة: انت بيت الحرام دايرة لي شي حاجة في الماكلة، عنداك نموت ليك هنا، والله حتى يديو باباك للحبس.” وتضحك، لكنها وحتى وهي تضحك كان هناك حزن عميق داخلها، لأن الضحك من القلب أصبح طعمه مرا منذ أن سافر ابنها هشام و لم يعد. عندما تذكر اسمه اشعر ان كل شيء توقف عندها. حتى التنفس يتحول الى شهيق يتسلل معه كل شوقها، وزفير يخرج ألما عميقا. لتخرج كلمتها الحزينة التي تكسر القلب : “وا هشام توحشت ريحتك يا ولدي”.. شوقها لهشام سهم مغروس في قلبها العليل ، وتتمسك بالحياة لعل رؤيته ينزع ذاك السهم ويعيد لها الحياة والابتسامة. لا تملك من الدنيا إلا أمل يجعلها تتشبث بالحياة أكثر، وعندما تبدأ الحديث عنه لا يمكن ايقافها ولا ايقاف دموعها المتدفقة على تجاعيد وجهها، وتحكي : كان هشام الاحن عليها من بين إخوته 3 الذكور ، كان موظفا و يقوم بأعمال اخرى كهواية تدر عليه بعض الاموال .وكل ما يجنيه من مال يكون نصيبه الاكبر لوالدته التي كان يحبها بشكل كبير. حتى انه كان يساعدها في أعمال المنزل بالرغم من وجود اخواته البنات. وككل الشباب احب هشام فقرر الزواج، عندما اخبر والدته، فرحت وباركت له، و لكنها نبهته ان تلك البنت قد لا تكون مناسبة له، لأنها لن تقبل العيش حسب ظروفه، فقد فسخت خطوبتها من قبل بسبب رغبتها في العيش في مستوى أكبر، لكن هشام احب البنت وتزوجها ، ولم تمض بضعة أشهر حتى بدأ الخلاف بينهما ، فراتبه كموظف و ايضا عمله الاضافي لا يكفيان لتسديد كل المتطلبات لاسيما و ان هناك طفل قادم في الطريق. وامام الضغوط قرر هشام تجريب حظه “بالحريك” ودع والدته، وطمأنها ان الغياب سيكون لفترة قصيرة، يجمع القليل من المال ليشتري بيتا لزوجته و يحسن من ظروف عائلته ويعود من جديد. سافر هشام وبقيت امي حليمة تنتظر أخباره التي لم تصل أبدا. فمن كانوا معه في الرحلة وصلت أخبارهم إلا هو. ازداد ابنه و مع مرور الوقت تطلقت زوجته غيابيا .و بقيت امي حليمة تنتظر.. مرت 20 سنة الآن ، وهي مازالت تنتظر.. ومازالت كلما تذكرته تحكي كيف كان حنونا ، وسيما ، لطيفا ، محبا للناس.. مرت 20 سنة ومازال عندها أمل أن يوما سيأتي هشام ..و مازالت كلما ضاقت بها الدنيا تحمل جسدها النحيف و قلبها العليل تطرق الباب و عندما أراها أعرف أنها ستحكي و ستبكي وسيؤلمني عجزي لأني لا أملك جواباعن سؤالها:” فينك يا ولدي هشام؟”.
و كل مرة ستطرق الباب سأختلق قصصا وحكايات مضحكة حتى لا أرى دموعها من جديد.
#انا_انسان
سعيدة بنت العياشي

شاهد أيضاً

ريان الطفل الذي أبكى العالم

لم يكن احد يعلم ان تلك القرية المهمشة في مكان ما على خريطة المغرب الغير …

الساحة التي ضربتها الجائحة

ساحة جامع الفنا التي صنفت سنة 2008 من طرف اليونسكو تراثا ثقافيا اللامادي للبشرية، هي …

يا صاحبي رجاء

بقلم سعيدة بنت العياشي الكثير منا لا يعرف ماذا يعني مرض الزهايمر،والبعض حوله الى نكت …

من أرشيف المناضل الصديق الأحرش- حفظاً للذاكرة و حتى لا ننسى

يقلم سعيدة بنت العياشي وانا افتح  هذه النافذة وضعت هدفاً امامي و هو ان نطل …

من واقعنا الحزين..اموكاي ليس اسمها

بقلم سعيدة بنت العياشي فاطنة، هذا كان اسمها، امرأة شابة ، قادتها ظروف الحياة الى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.