الرئيسية / إنسان وراء الشمس / الصديق الاحرش و حب رجل ثائر

الصديق الاحرش و حب رجل ثائر

من  تكريم المناضل الصديق الأحرش

بقلم حليمة زين العابدين

صور تتوالى، وشمت الذاكرة، من عمقٍ بعين صغيرتين تخترق نظرتهما شباك المزار بالسجن المركزي، تشعان بحب لا حدود له، لامرأة تقف بمحاذاة الشباك الآخر، لا يكاد يظهر منها إلا القليل من الجزء الأعلى من الجسد. كانت صغيرة الحجم، نحيفة البنية.. أنيقة رغم قهرها.. جلباب ترتديه ناصع البياض، لثام من حرير شفاف مطرز الحواشي على عادة نساء مدينة سلا، اللواتي تشكل الأناقة الرفيعة جزءا من هويتهن. لثامها يغطي أرنبة الأنف والفم، يبرز عينين هما عينا الصديق تماما. عينان صغيرتان.. حادتي الرؤيا. لثام لا يمنع الفم من قول “لا” لا لكل الجلادين الذين انتزعوا منها الكبد وأحرقوه في غفلة منها. “لا” لكل سفاكي الدماء الذين غرزوا أنيابهم في وريد ابنها، ووشموا صدره بأثر كرباج، بحثا عن قلب يعشق حد الجنون وحد الموت وحد السجن.

لم تتلاشى “لا” هاته الأم الصغيرة بين جنبات المزار المظلم.. امتد صداها على امتداد الوطن .. وقد خرجت أم الصديق يدها في يد أمهات مثلها وزوجات صودرت كلمة أحبك من على شفاههن، يناضلن جماعيا من أجل تحسين ظروف السجن … يعتصمن بوزارة العدل.. يقتحمن اجتماعات الأحزاب السياسية بمقراتها.. يقدن مظاهرات الطلبة بكلياتهم.. وكان الزمن غير هذا الزمن.. كان زمن الصمت والخوف من أعين الرقباء والمخبرين، تتسلل من بين شقوق الجدران .. وكان الصديق لحرش ورفاقه في إضراب لا محدود عن الطعام.. وكانت أم الصديق ورفيقاتها، أمهات وزوجات المعتقلين ببهو كلية الآداب، يرددن مع الطلبة “هما فين فين الطلبة المعتقلين… في السجون عن الطعام مضربين”. تدخل البوليس بهراوتهم وفرقوا جموع المتظاهرين، وبقيت هذه الأم الصغيرة، أم الصديق لحرش، تنظر بعينيها الثاقبة، إلى رجال البوليس يصولون قمعا في بهو الكلية. أثارت حقد رجال البوليس، نظراتها المتطايرة شرر السخط والنقمة والغضب، وكلمات كالسيف الناقع سما، تخرج من تحت لثامها فتصيبهم بالشلل.

أم صغيرة أرعبتهم نظرتها.. حاولوا إبعادها ، لم تبتعد. اوقفوا سيارة أجرة وامروا السائق أن يعود بها إلى مدينة سلا.. ما العمل والطاكسي لا يتحرك خارج مدار الرباط.. ولكن السائق أجبر على العودة بها. إنه البوليس السياسي من أمره..

اجتاز الطاكسي قنطرة وادي أبي رقراق يحمل أمي زهرة، أم الصديق، بطلة لم يتوقف حكيها عن ولدها الذي عشق عشقا ممنوعا.. يدفع ثمنه باهضا.. دما مسكوبا على شيك موقع على بياض.. قيمته حياة تقبر، وحلم يصادر.. ولم تتوقف مغامراتها لاجتياز الوادي الفاصل بين مدينة سلا ومدينة الرباط.. أصبحت عادتها الخروج من بيت كان موصدا دونها، لم يفتح بابه إلا حين اعتقل ابنها..

اعتقال الصديق لحرش ماكان ليهيج عاطفة الأم فيها… فهي أم ولا تحتاج مساعدا خارجيا لتفتك بأسنانها من مس ابنها.. لا تأبه للموت ولا لطغيان جائر إن كان المعني ولدها، ولكن هذا الاعتقال، اعتقال ابنها حول عاطفة الأم عندها إلى وعي.. إلى وعي بأن الوطن مسبي، مكبل ومخدوش الوجه، وهي عليها أن تقاوم، لا لأجل ولدها فقط، ولكن من أجل هذا الوطن، حتى تصبح فيه حرية التعبير حقا مكتسبا، وحرية الرأي واجبا محصنا، وحقوق الإنسان مكسبا لكل المغاربة.

ومنذ اعتقال ابنها، صار بيتها ملتقى أمهات وزوجات المعتقلين، يخططون لاحتلال أكبر مسجد بالعاصمة؛ يعتصمون به، يختمون الفاتحة بتلاوة بياناتهم حول الاعتقال وظروف المعتقل وسجن برائحة الموت تطوي غياهيبه خيرة شباب البلد، ومنهم من لم يبلغ سن الرشد بعد. من بيتها يخططن للاعتصام بوزارة العدل وفضح السجن والسجان. وفي بيتها كتبوا لافتات يرفعنها في مسيرات فاتح ماي، لا يهمهن أية نقابة احتضنت قضيتهن، فحيث ما كان العامل والفلاح والطالب والتلميذ هم هناك، يرفعون عالي الصوت لفضح واقع الاغتراب في وطن حرم أبناءهن وأزواجهن، من رؤية الشمس تسطع في سمائه ، لتعرية واقع سجناء الرأي محرومين من الحق في الدراسة والعلاج وفي حياة إنسانية كريمة.. وذلك قبل دخولهن في مرحلة المطالبة بإطلاق السراح.. التي بدأنها بالإعتصام بمقر فرع الأمم المتحدة بالرباط. أي تحد هذا الذي لبس أم لحرش ورفيقات دربها… يغافلن العسس والحرس ويقتحمن مقرا يجهل أدواره جل سكان البلد، وهاي ذي خمسون امرأة في ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تقتحمه أبوابه المغلقة دوما، لتمرر عبر دواليبه الخفية صوتها إلى العالم… تقول “إنها بلدي التي صادقت على اتفاقياتكم برفع الحجر على الإنسان، تغلق زنازن من اسمنت وأسلاك حديدية على أبنائنا…”. تدرك أمي زهرة، أم الصديق ومعها رفيقات درب نضال طويل، أن الاحتجاج والاعتصام وتنظيم المسيرات لم يكن كافيا لتحقيق كل المطالب، ما لم يكن الضغط منظما تلتف حوله كل القوى الديمقراطية في البلد وخارجها، فانخرطن في تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، واصبحن عضوات فاعلات في فروعها. وربطن علاقات مع منظمة العفو الدولية “امنستي” ،ولم يكن لها أنذاك فروع بالمغرب، واستقلبن أعضاءها في بيوتهن وحكين لهم عن ظروف السجن وأوضاع المعتقلين السياسيين. انها امي زهرة وصاحباتها من سألهن المخبر حين اعتقلهن، وما اكثر المرات التي بتن فيها بمخافر الشرطة، كيف عرفت ان اليوم هو اليوم العالمي لحقوق للإنسان فأجابته: منذ اعتقلتم ولدي وأنا لا أفارق المذياع أملا في سماع خبر عنه. من الراديو عرفت أن العالم كله يحيي ذكرى الاعتراف بحقوق الإنسان في العاشر من دجنبر كل عام، وانا ابني إنسان ولكنكم حرمتموه من أن يعيش إنسانيته”. أمي زهرة هاته المرأة العجيبة الرائعة هي من أنجبت الصديق لحرش. أسطورة في نضاله وصموده وتحديه.. أسطورة في حبه او أن حبه هو الأسطورة .

أسطورة هذا العشق للوطن الذي انتهي به معتقلا محكوما عليه باثني وعشرين سنة سجنا… الوطن لا يتجزأ عند الصديق.. هو أرض يحلم لها بالحرية والكرامة.. هو أمٌّ ينحني لها اعترافا لأنها أجمل الأمهات.. هو صديق يتفانى في خدمته دون انتظار المقابل، هو الأسرة التي شارك في تكوينها صحبة آمنة بعد خروجه من السجن، هو بنت وولد انجبهما ورأى فيهما استمرارية عشقه للوطن محمولا لأجيال لايتوقف، هو امراة أحبها قبل اعتقاله، حمل حبها مهربا من قبو لقبو ومن سجن لسجن، يكتب لها شعرا من منفاه فلا يصلها، يستمد من حبه لها مقاومته للموت الأسود في سراديب المنفى.. يحبها وإن كان يعرف انها نسته، وقد صرح لها بكلام لا يقال… المناضل لا ينحني لجنون حب امرأة.. الصديق المناضل قال لها أحبك.. فردت “لا” واستمر يحبها.. لأنه يحبها… حب الوطن لا يختزل ولا يجزأ، ولكن الصديق كان قادرا على حب الوطن وامرأة، امرأة مخصوصة حوَّل حبُّها وحشة زنزانته إلى فضاء مفتوح على عالم الذاكرة المسبية. حملها معه موشومة في وجدانه وهو يقاد إلى مخافر التعذيب مكبلا مغمض العينين.. يستحضرها في عالمه المنسي، يبوح لها بحبه مرات ومرات، غناء سجيا.. الصديق وهو عاشق يتقن الغناء، يغني لحبيبته الحاضرة في الغياب، مواويل أم كلثوم، ويردد معه صدى زنزانته آهات محمد عبد الوهاب وصدح صوت جاك بريل.. يكتب لها شعرا بفحم عود الثقاب على جدار الزنزانة حيث كان ممنوعا من القلم والورق.. وحين فكت العزلة عنه، كتب شعره لها على مذكرة أهدتها له صديقة كانت تزوره بالسجن، احتفظ بها طوال مدة سجنه ، ولا زالت معه إلى اليوم، وقد مر على هذيانه الشعري هذا المخطوط عليها، ما يقارب الأربعين سنة، تذكره كم قاوم في السجن ليعترف الرفاق بان حبا نوعيا وخاصا لا يعادي حب الوطن ولا ينافسه بل يقويه. وقد كان الحب النوعي والخاص غير مباح ولا معترف به عند الرفاق، رفاق الصديق.. بل إعلانه كان معادلا للانهزام والتخلي عن المبدإ ومن بقايا أثار برجوازية.. وكان الصديق ثائرا على النظم والقوانين التي تبيح حق الاعتداء على الانسان وحرمانه، من حريته ودوس كرامته، متمردا في سجنه على ثقافة رفاقية تصادر حبا يُعلَن لغير الوطن، وغناء لا يتردد عشقا للإنسان كل إنسان، بلا تحديد أو تخصيص.

متمرد تعلو وجهه ابتسامة مشرقة رغم الأسى، تدفعك لتحبه رغما عنك.

وهكذا كان الصديق مصرا على ان تكون علاقة المعتقل اليساري بزوجته وحبيبته علاقة بوح وكان له ذلك.. وقد أصبح المعتقلون يكتبون شعرا وكلمات حب لحبيباتهم وزوجاتهم…
هذه الكلمة قدمت خلال حفل تكريم للمناضل الصديق الاحرش نظمته  جمعية سلا المستقبل في 2011

شاهد أيضاً

عروسان تحت الركام في زلزال الحوز

مأساة حقيقية انكشفت اثناء جهود الإنقاذ والمساعدة خلال اللحظات الأولى التي أعقبت الزلزال المدمر الذي …

بين ركام زلزال الحوز قصص إنسانية جد مؤثرة

في أحد أيام الخريف من العام الماضي… كنت أقود خلوة روحانية في ويركان في الأطلس …

زئير لبؤات الأطلس انتصار ضد كوريا… أم انتصار ضد التنمر

بقلم.سومية منصف حجي إن المتتبع لكرة القدم بالمغرب يدرك جليا أن ممارستها من طرف الفتيات …

الطفلة مريم ضحية الاغتصاب والإجهاض السري

اهتز الرأي العام الوطني لفاجعة وفاة الطفلة  مريم ذات 14 ربيعا  اثر تعرضها الى محاولة …

الصديق الأحرش عاشق الحرية

عندما زرته في ذاك اليوم كان الصديق يمر من جديد بوعكة صحية  عرفت ذلك  من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.