الرئيسية / إنسان وراء الشمس / قصة انسانية مؤثرة جدا. بين هيلا ومنى و الصديق الاحرش

قصة انسانية مؤثرة جدا. بين هيلا ومنى و الصديق الاحرش

بقلم سعيدة بنت العياشي

تألمت كثيرا وحبست دموعي بصعوبة و أنا أستمع إلى الصديق الأحرش وهو يحكي لي عن تجربة إنسانية فريدة من نوعها.  هو أيضا  حاول مرارا منع دموعه و لكنه في لحظة لم يستطع.. شرد طويلاً وهو ينظر إلى أفق  بعيد يبدو له من النافذة. وفجأة إلتفت إلي وقال بالكثير من الحنين: لقد كانت ملاكاً ..

قد تكون تجربة السجن قاسية جداً بكل ما تحمله كلمة قسوة من نذوب غائرة مرشومة ليس فقط على الجسد نتيجة التعذيب و لكنها غائرة في الروح أيضا، تتعمق جروحها بمرور سنوات السجن الطويلة. وبالرغم من عتمة الزنازن و برودتها وصلابة القضبان الحديدية وألوانها الداكنة تأتي روح  جميلة قادمة من بعيد لتطل عليك ، تمد يدها إليك وتصافح روحك المكسورة ،  ودون أن تسأل من أنت تحضنك بدفء انساني عميق، لتقول لك: انت لست وحدك انا معك ..

 بدأت القصة من هناك من داخل السجن المركزي بالقنيطرة حيث كان  الصديق الأحرش معتقلا سياسيا محكوما ب  20 سنة سجنا نافذا ضمن مجموعة يناير77 في فترة اطلقوا عليها سنوات الجمر و الرصاص. و كانت هي  “هيلا” او Hildegard Klein المناضلة الحقوقية الألمانية التي قطعت المسافات  لترسم تفاصيل علاقة إنسانية  في أبهى تجلياتها.

المناضلة الحقوقية هيلا مع اسرة الصديق الاحرش 

في تلك الفترة  كانت منظمة العفو الدولية قد تبنت قضية المعتقلين السياسيين فتطوع مجموعة من النشطاء الحقوقيين الدوليين في مبادرة إنسانية تجلت في التكفل بالمعتقلين. حيث  تكلف كل ناشط من متابعة معتقل ومعرفة حاجياته ، كانت المناضلة الحقوقية  “هيلا ” ضمن مجموعة مدينة بون  Bonn بألمانية  كلفت بمتابعة ملف الصديق الاحرش فدخلت معه في تواصل عبر المراسلة أشهر قليلة بعد التحاقهم بالسجن المركزي بالقنيطرة.. هيلا لم تتبنَ قضيته فقط بل احتضنت اسرته ايضا خاصة والدته “امي زهرة “.
 يجب الإشارة أيضا أن في تلك الفترة  كانت هناك مواكبة كبيرة من قوى تقدمية  ببلادنا و أيضا متابعة إعلامية لنضال المعتقلين وعائلاتهم من أجل اطلاق سراحهم أو من أجل تحسين ظروف الاعتقال ويجب التذكير أيضا أن نضالات المعتقلين آنذاك كانت متعددة منها دخولهم في إضرابات طويلة عن الطعام خلفت شهداء منهم سعيدة المنبهي وآخرون..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كانت “هيلا” دائمة التواصل مع الصديق تسأل عن أحواله وتزوده بكل ما يحتاجه معتقل من حاجيات إضافة الى نقل اخبار العالم الخارجي بل كانت تتاقسم معه حياتها الشخصية بأفراحها و أحزانها،  حتى صار الصديق واحدا من أفراد تلك العائلة الألمانية البعيدة مسافة والقريبة الى قلبه بدفئها الانساني الكبير، كان يتابع حياة “هيلا”  واسرتها  بكل تفاصيلها الصغيرة .

مع توالي الشهور و السنوات أصبحت علاقتهما اكثر عمقاً و إنسانية واصبح الصديق ذاك الصديق الحميم رفيق المبادئ الذي يمكنها أن تتقاسم معه تلك التفاصيل الحياتية الصغيرة  كخبر حملها . ثم اخبرته  بعد شهور انها انجبت .، كانت طفلة جميلة. و احتارت هيلا وزوجها  في اختيار اسم مناسب لها بين اسمين مقترحين لم يتم الحسم  في أحدهما . فما كان على الصديق سوى الرد في رسالة واقترح عليها إضافة اسم ثالث ينضاف الى الاسمين المقترحين من قبل . الصديق اختار اسم “منى” وشرح ل “هيلا ” ماذا يعني هذا الاسم بل اخبرها أيضا انه سيكون سعيدا جدا -إن قبلوا- ان يكون عراب الطفلة. بقي ينتظر الرد الذي جاء بعد أسابيع : لقد تم اختيار اسم للمولودة الجديدة وكان “منى”  و أكثر من ذلك تم الاتفاق ان يكون الصديق  هو العراب..


Mona Julia Katharina Klein ازدادت في 26 يونيو 1980 بمدينة بون الألمانية.

في هذه اللحظة توقف الصديق عن الكلام  وشرد بعينه مرة أخرى  ينظر الى النافذة، و لعله كان يسترجع تلك اللحظات من ذاك الزمن البعيد.. تلألأت عيناه ببريق او هي  دمعة خجولة كتمها بصعوبة. سألته: هل كنت سعيداً ؟ أجاب  على الفور: طبعاً سيسجل اسمي  رسميا كوني عراب منى .

من السجن تابع الصديق الاحرش نمو الطفلة منى؛ عبر الرسائل و الصور التي واضبت “هيلا” على ارسالها له. كان يراها تكبر وكأنها أمامه ، وصارت اخبارها مثل ذلك الضوء الذي ينير عتمة حياته بالسجن..

في سنة 1984 غادر الصديق الاحرش السجن  بعد 10 سنوات من الاعتقال.جاءت هيلا ومنى من ألمانيا لزيارته فكان أول لقاء بينهم  في مطار اكادير و منى كانت انذاك في الخامسة من عمرها وقد تعرفت على الصديق من خلال الصور التي كان يرسلها باستمرار  من السجن . و هي خارجة من المطار صاحت  “هيلا” ها هو الصديق لم تنتظر الطفلة  طويلا لتبحث عنه بين الحضور الغفير، فصورته منقوشة في ذاكرتها فركضت الطفلة الصغيرة بسرعة في اتجاهه و ارتمت في حضن الصديق وهو تعانقه بشدة و بالكثير من الحب ..

تلك اللحظة توقف عندها الصديق الاحرش طويلا وهو شارد الذهن يحاول إخفاء تأثره و لعله كان يحاول جمع  تلك اللحظات لحظة بلحظة ودموعه تملأ عينيه. و انا انظر اليه و أتابع باهتمام كبير تفاصيل هذه العلاقة الإنسانية  التي تؤكد أننا عندما نتجاوز كل اختلافاتنا..تنمو المحبة فينا و نسمو برقي و نكون فقط  انسانا جميلا بكل هذا العمق الانساني.

كان اللقاء  بداية جديدة لعلاقة إنسانية عميقة جدا صارت منى مدللة الصديق  كلما  كبرت ازدادت تعلقا به مثل أب متفهم وحنون..حتى وهي شابة بقيت دائمة التواصل معه تحدثه عن كل تفاصيل حياتها وتتقاسم معه نجاحها و كل ما تحبه في الحياة، بل كانت تحكي لأصدقائها الالمان  عن اسرتها المغربية التي  لها نفس  القدر من الحب الذي تكنه لأسرتها البيولوجية، منى عاشقة الرياضة و الفروسية بقدر أكثر لم تتخل عن هذا العشق الا بعد حادث صعب ارغمها على الابتعاد عن رياضتها المفضلة، لكن الحادث واصابتها بكسر  لم يبعدها عن حبها لرياضات اخرى تعشقها ايضا. هي منى الجميلة المجتهدة و المتفوقة في دراستها و التي حصلت على الدكتوراه في مجال البحث العلمي و التكلنولوجي و اشتغلت في شركة عالمية مختصة في التطوير التكنولوجي

وهي الشابة الجميلة التي عوضت فقدان والدها بحبها لأب مغربي هو الصديق الاحرش الذي يحكي عنها بفخر الاب لابنته المفعمة بالحياة و العطاء خدمة للانسانية .بل كثيرا  ما كانت والدتها  “هيلا”  تشتكي  ان الصديق  يدلل منى اكثر من اللازم وعليه أن يكون اكثر صرامة .. لكنه كان يرد على هيلا  بحب الاب: دعيها فأنا سعيد جدا بدلالها …

استمر تبادل الزيارات و اللقاءات بين عائلة الصديق الاحرش و عائلة المناضلة الحقوقية “هيلا” بل  كانت لهم محطات نضالية أخرى هذه المرة ضمن بعثة اممية من اجل السلام  في دول مختلفة كانت تعرف حروباً أهلية

منى وسط اسرتها المغربية

كبرت منى صارت شابة جميلة تعشق السفر والرياضة .كانت دائمة التواصل مع الصديق و تتقاسم معه شغفها و كل ما تقوم به حتى حين قررت السفر صحبة مجموعة من أصدقائها لتسلق احدى الجبال اخبرته  بذلك وهي فرحة .  حاولت والدتها “هيلا” منعها من السفر لخوفها الشديد  ات تصاب بمكروه فلم تستطع  فطلبت من الصديق ان يحاول ايضا منعها لكن منى كانت مصرة على ذاك السفر .. فسافرت ..

الابتسامة الاخيرة 

التاريخ هو  5 غشت 2013  كان الصديق  الاحرش  في مهمة في اليمن ضمن جهود الأمم المتحدة لإحلال السلم .كان هناك  حين وصله  خبر نزل كالصاعقة  : لقد ماتت منى ..

 كانت تمارس رياضتها المفضلة في تسلق الجبل حين هوى  حجر غادر من فوق على جسدها  و ماتت ..

تحجرت الدموع في عيني الصديق .سكت طويلا .. و بحسرة كبيرة قال : ماتت منى، ماتت ابنتي ..
#انا_انسان 

شاهد أيضاً

عروسان تحت الركام في زلزال الحوز

مأساة حقيقية انكشفت اثناء جهود الإنقاذ والمساعدة خلال اللحظات الأولى التي أعقبت الزلزال المدمر الذي …

بين ركام زلزال الحوز قصص إنسانية جد مؤثرة

في أحد أيام الخريف من العام الماضي… كنت أقود خلوة روحانية في ويركان في الأطلس …

زئير لبؤات الأطلس انتصار ضد كوريا… أم انتصار ضد التنمر

بقلم.سومية منصف حجي إن المتتبع لكرة القدم بالمغرب يدرك جليا أن ممارستها من طرف الفتيات …

الطفلة مريم ضحية الاغتصاب والإجهاض السري

اهتز الرأي العام الوطني لفاجعة وفاة الطفلة  مريم ذات 14 ربيعا  اثر تعرضها الى محاولة …

الصديق الأحرش عاشق الحرية

عندما زرته في ذاك اليوم كان الصديق يمر من جديد بوعكة صحية  عرفت ذلك  من …