بقلم: سعيدة بنت العياشي
كلما اقترب العيد، أختبئ من نفسي.
يخنقني شيء في الحلق، شهقة صامتة تأتي من الأعماق، وتختزل كل ذاك الحنين إليه. حزن ثقيل جاثم على صدري كجبل، لا يزحزحه الفرح ولا تهزه الأمنيات. لكم عيدكم فافرحوا به… أما أنا، فعيدي دفنته، وقرأت فوق قبره ما تيسر لي من آيات.
أختبئ من نفسي ومن ذكريات تصطف أمامي دون رحمة.
أتذكّر كم كنت أعدّ الأيام والساعات، أترقّب خطواته تقترب من الباب، فأفتحه قبل أن يطرقه، وأرتمي في حضنه صارخة:
“باعيوش! سبقتك تاني!”
فيضجّ البيت فرحًا، يحتضنني كطفل اشتاق لأمه، ويغرقني بالقبلات مردّدًا بصوته الدافئ:
“واااااه يا سعيدة، شحال توحشناك!”
كان يترك مراكش بكل من فيها ويأتي إليّ، لأني أفهمه، أو لأني أشبهه، أو لأني الأقرب إلى روحه. أنا تلك المجنونة التي لا تقبل الظلم، وهو أبي الذي كان يرى فيّ مرآته.
منذ لحظة وصوله، يملأ البيت حياة: تقرير مفصّل عن مراكش، عن الأصدقاء، عن الجيران. ثم… لحظة خاصة لا تتأخر: ينادي بأعلى صوته:
“بلانكا! هاني جيت!”
القطة البيضاء تعرف صوته، فتبدأ طقوس الدلال.
يفتح حقيبته فورًا، كأنها أول من يهمه:
“بلانكا، شوفي آش جيت ليك…”
لكنّه يتوقف، يتنهّد بحسرة:
“أووووف، نسيت الفرماج فمراكش!”
ثم يهمّ بالخروج لشراء علبة اخرى من البقال… ينسى تعبه من أجل قطة، هو الذي كان يوصيني دائمًا:
“شري لبلانكا عشرين درهم كفتة على حسابي.”
كنت أضحك وأتوعد بلانكا بالويل لأنها “تتقاسم باعيوش معي”.
مرة سأله أحد أصدقائه من تكون هذه بلانكا التي يسأل عنها كل يوم؟
فلما عرف أنها قطة، ضحك.
أما باعيوش، فقد غضب قليلًا، وفي اليوم التالي قال لي بابتسامة خجولة:
“سعيدة، بلانكا سميتها فوزية، باش ما يضحكوش عليّ تاني.”
ومن يومها،وهو يسأل عن “فوزية”!
بعد الغداء، يدخل غرفته ليرتاح. كنت أراقبه وأجهّز ضحكاتنا القادمة.
العيد بصحبته له طعم خاص.
مرة أخذته معي إلى مركز تجاري. دعيته لاستعمال السلم الكهربائي، فرفض بعناد طفولي. فصرت أصعد وأنزل أمامه:
“شوف يا المراكشي الخوّاف!”
ابتسم بخجل، لكنّه لم يتحرك. ربنا رفض ..
ذهبت لأشتري شيئًا، وحين عدت، وجدته يصعد وينزل من المصعد وهو يناديني:
“سعيدة! شوفيني! أنا راه ولد البلاد!” لقد جربه في غيابي..
ضحكنا، ونسينا الناس حولنا، كأننا وحدنا في هذا العالم.
اليوم، أغلق عيني فأراه يملأ البيت مجددًا.
لا أعرف كيف يبدو العيد بعده، ولا أريد أن أعرف.
يكفيني أن أظل أسمع صوته في أذني…
“واااه، شحال توحشناك.”
سعيدة بنت العياشي
#أنا_إنسان #أتألم