بقلم سعيدة بنت العياشي
وكأننا نعيش في كابوس مرعب لا ينتهي ، اذكر في تلك الليلة من شهر غشت 2020 كان الوقت يقترب من منتصف الليل وانا أحاول مقاومة الارق اللعين بقراءة كتاب يبدو أن صفحاته هي الأخرى ثقيلة لا تريد أن تنتهي ، تماما مثل هذا الهم الجاثم على صدورنا منذ شهور .. لم اكن اعرف أن الارق سيصير رفيقا.. حين رنَّ الهاتف اصابني الذعر .فقد صرت اتحسس من تلك الاتصالات المتأخرة.. كان المتصل صوته ضعيفا ومرتعدا و كانه خارج من بئر عميقة :
*مساء الخير اختي سعيدة أتمنى ألا أكون قد ايقظتك .. لم يكمل كلماته حتى وجدت نفسي واقفة انتظر ما سيقوله..
– مساء الخير خويا مالك ياك لاباس ؟؟ ..
* اسمحي لي اختي سعيدة .. وبدا وكأنه يجمع كلمات سقطت حروفها في جوفه يخرج حرفاً حرفاً بارداَ مرتعشاَ .. و أنا انتظر ما يحمل هذا الصوت المخنوق من اخبار سألته مرة اخرى :
– أخي ما بك ؟ لا جواب.. ليس هناك سوى انفاس مخنوقة تخترق السمع. بقيت مسمرة في مكاني وشريط الأيام يرجع بي الى الوراء الى سنوات بعيدة جدا كأنه فيلم قديم.. قفزت صورته وضحكاته الهستيرية لذاك اليوم في ذات لقاء لنا بعد غياب طويل فرضته ظروف الحياة، كانت صورته وهو يترجاني ألا أحكي غرائبه أيام الدراسة لولديه الشابين الجميلين فقد نسج من خياله حكايات أخرى صورفيها نفسه بطلا !!.. هذا ما قاله لي ونحن نقطع الشارع في اتجاه المقهى حيث كانت اسرته في انتظارنا قال لي يومها : ارجوك اختي إن سألوك لا تقولي لهم اني “خواف” حتى لا تهتز صورتي امامهم، قهقرت من الضحك و انا اقول له: طيب . وفي المقهى اتسغليت الوضع، وكل مرة كنت اهمس في اذنه : سير جيب شي حلوى لاكريم بالشكلاط باش نسكت. تردد لوقت لكنه نهض و هو يهمس لي :” يا ربي تكالي فيها السم ان شاء الله.” مازال كما كان ذاك الشحيح “الزقرام” الذي كان يذهب الى المدرسة وفي يده قطعة خبز كبيرة مغموسة بالزيت او العسل يلتهمها بشكل مقزز في الطريق.. ضحكاتنا كانت مدوية في المقهى و انا اسرد بعض ذكريات الطفولة كان امين ابنه البكر يلح على بالمزيد من طرائف. هو ايضا اخذ الكلمة و طلب من الجميع الصمت وهو كديك منفوخ حكى بكثير من الثقة عن ذاك اليوم “التاريخي” بالنسبة له حين تبرعنا بالدم لأول مرة و اكتشف ان فصيلة دمه O+ فقد اخبره الطبيب ان هذه الفصيلة هي الجيدة في الدم من يومها “تزادت فيه ضلعة” و أصبح يناديني “بالكروب الناقص” لأن فصيلة دمي هي A+ و أحس بالفخر وهو يحكي امام اولاده ويدعوهم للافتخار بذلك ..ومعه حق ..
اسمه رشيد، زميلي في الدراسة لسنوات وابن الحي ايضا .. كان وحيد والديه فوالدته ( أمي زهرة) لم ترزق به إلا بعد أن بلغها اليأس من الانجاب و حكت لي يوماً انها زارت كل الاولياء والصالحين والغير الصالحين تناولت أشياء غريبة من أجل الانجاب.. حتى رزقت بابنها، ومن يومها و هي تخاف عليه بشكل مرضي. أربك شخصيته. فكبر وهو يخاف من ظله و من القطط و الكلاب و أضاف اليها رعبه الشديد من الحمقى منذ ذاك اليوم الذي صفعه فيه احمق قال لي حينها انه رآى النجوم ملونة بين عينيه. كنت بالنسبة له اخته التي تخاف عليه و الحائط الذي يحتمي وراءه و ايضا كاتمة اسراره الصغيرة التي لم يكن يقدر البوح بها لأي احد لاسيما التلاميذ حتى لا يكون محط سخريتهم ..
ما زلت اسمع انفاسه المتعبة من الهاتف ترى ما به ؟هل اتصل بي اليوم ليخبرني سرا آخر من اسراره ؟ أنفاسه تخترق الهاتف و هو يحاول التكلم تذكرته حين كان يجري وهو يقطع الشارع بالرباط بعد سنوات طويلة فرقتنا فيها دروب الحياة في ذاك اليوم اختبأت وراء بناية المحطة الطرقية و بقيت اراقب القادمين ، فجأة لمحته قادماً يجري عرفته بسرعة من طريقة جريه التي تشبه الارنب كان يلهت حين رآني صاح بأعلى صوته وناري عرفتك يا الدبوزة ..تعالي بسرعة معي هذا ما قاله و نحن نقطع الشارع كانت اسرته تنتظرنا في المقهى كانت زوجته جميلة و ابنيه الشابين الرائعين كانت اسرته هي كل حياته ..
قفزت امامي كل لحظات مرحه و خوفه و ذاك الاحساس الانساني الجميل اني اخته التي لم تلدها امه كنت معه في اصعب الظروف و اجملها هو من بين القلة القليلة من زملاء الدراسة الذين بقي التواصل معهم .. توقفت انتظر ما سيقوله و بصوت مخنوق بالدموع قال : اختي لقد اصبنا بكورونا انا و زوجتي ، نحن الان بالمستشفى و لا اعرف ان كنت ساعيش ام لا ..أختي إذا وقع لي شيء اولادي أمانة. ليس لهم احد .. و دخل في شهيق.. وقطع الخط..
اعرفه كان يبكي ..ليلة طويلة لم تنته كنت اتصل عدة مرات لأعرف كل التفاصيل عن وضعهما لاسيما و ان الوضع الصحي في مراكش في تلك الايام قد اصبح كارثيا بعد ارتفاع مهول لحالات الاصابة بالفيروس انهارت معه المنظومة الصحية ، كان عدد الوفيات في ارتفاع . لحسن الحظ ان اخي رشيد وزوجته قد تجاوزا الخطر بعد فترة من القلق و الاعصاب و الانتظار ..
كانت اسابيع سوداء مثل الفيروس اللعين.
الله يحد الباس ..
#أنا_إنسان