رحل الفقيد ندير يعته عن هذه الحياة قبل ستة وعشرين سنة بالتمام والكمال، وبالضبط يوم الجمعة 12 أبريل 1996 بمدينة الدار البيضاء، بعد أربع سنوات من حادثة السير المفجعة التي تعرض لها في الطريق السيار بين مدينتي الرباط والدار البيضاء، ومعاناته مع تداعياتها القاسية وما سببته له من إعاقة حركية، تاركا مساحة فارغة في الحقل الإعلامي المغربي تعذر ملؤها، وبصمات فكرية وسياسية في المشهد الحزبي يصعب محوها.
النشأة.. محيط عائلي سياسي
ولد الفقيد ندير يعته يوم الخميس 10 يوليوز 1952 بالدائرة الحادية عشر (11) بالعاصمة الفرنسية، حيث رأى نور الحياة، كتوأمه فهد وأختيه المرحومة ليلى وسامية، بالعاصمة الفرنسية في بداية النصف الثاني من القرن 20، حيث كان والده الراحل علي يعته الأمين العام للحزب الشيوعي المغربي يعيش في ظروف قساوة المنفى، وصعوبات العمل السري، جراء المتابعات البوليسية والمضايقات القمعية من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية بالمغرب، بل إنه قضى فترات متقطعة في مراكز سجنية بمارسيليا وبباريس ” Fresnes/ Baumette / Santé”.
وبخصوص الدائرة 11، فهي تقع على الضفة اليمنى لنهر السين (Seine)، مابين أشهر ساحات مدينة باريس: ساحة الأمة
”La Nation”، وساحة الجمهورية “La République” وهما فضاءان تنظم فيهما عادة المظاهرات التي تدعو لها الأحزاب السياسية اليسارية أو المنظمات النقابية، ثم ساحة لاباستيل” La Bastille” المكان الرمزي للثورة الفرنسية.
وإذا كانت هذه الدائرة تعتبر اليوم دائرة “شعبية”، وتعرف بقلة نشاطها السياحي مقارنة مع دوائر أخرى، فقد سكنتها، عدة شخصيات طبعت تاريخ الفرنسي السياسي والثقافي والفني، نذكر منهم: السياسي ليون بلوم، الفنان بابلو بيكاسو، الشاعر بول فيرلين. كما أنها شهدت أحداثا استثنائية في تاريخ فرنسا عموما ومدينة باريس على وجه الخصوص، بحكم موقعها في قلب الحراك الثوري والانتفاضات العمالية في القرن التاسع عشر، وقلعة لخلايا المقاومة الفرنسية وملجأ وكذا للتنظيمات الشيوعية خلال الحرب العالمية الثانية، كما أنها كانت في ما مضى من الزمن تعد حيا عماليا بحكم احتضانه لنسيج مكثف من المقاولات الصناعية والتجارية التقليدية.
وتميزت نشأة ندير يعته، كباقي إخوانه، في محيط عائلي يخيم عليه الالتزام السياسي الوطني والنشاط الثوري من جهة والده علي يعته وكذلك من جهة أسرة والدته، علاوة على احتكاكه، منذ طفولته، بقادة الحزب وأصدقاء والده خلال زياراتهم للبيت العائلي.
الفترة الباريسية.. تحصيل ونضال وتكوين
إثر إكمال ندير لمراحل التعليم الابتدائي والثانوي بمدينة الدار البيضاء بعد عودة الأب من المنفى، التحق بفرنسا لمتابعة دراسته الجامعية بباريس في تخصص العلوم السياسية، ولينخرط في التنظيم الحزبي الذي يجمع الطلبة والعمال المهاجرين بالديار الفرنسية كما كانت التسمية حينها.
وخلال هذه المرحلة، انغمس في النضال داخل صفوف المنظمة النقابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (UNEM)، ويتذكر الطلاب المناضلون أعضاء المجلس الفيدرالي بأوروبا الغربية آنذاك مستوى تدخلاته وتحاليله في الاجتماعات والمؤتمرات، إلى جانب رفاقه المناضلين في التحرر والاشتراكية ثم التقدم والاشتراكية، وبكونه كان مدافعا صلبا عن القيم الوطنية والمبادئ الديمقراطية والتطلعات الشعبية، يشارك في إغناء النقاشات السياسية العامة ويتألق في سجالات الصراع الفكري والإيديولوجي مع الخصوم السياسيين للحزب وأعداء الوطن، وفي خضم هذه المعارك التي لا تفسد للود قضية ربط علاقات صداقة واسعة مع العديد من الأطر الطلابية المغربية الذين تقلدوا مناصب ومهام سياسية بعد عودتهم لأرض الوطن.
وبالنسبة للدفاع عن قضية الصحراء المغربية والوضع الديمقراطي بالمغرب، سواء في أوساط الطلاب المغاربة أو الأوساط اليسارية الفرنسية، فقد كان محاورا ومجادلا قويا، يجعل مخاطبيه يحسون أنهم أمام شخص ذي رؤيا واضحة يدعو للتفاؤل الثوري وله مستقبل واعد. علاوة على مساهماته في دعم التضامن المغاربي بحكم عضويته في جمعية طلاب شمال إفريقيا (AEMNA) التي كانت تجمع المكونات الثلاثة للطلاب المغاربيين من دول المغرب والجزائر وتونس. ولم يمنعه نشاطه السياسي والطلابي من إكمال مشواره الجامعي بتفوق وإنجاز أطروحته في الدكتوراه حول موضوع العلاقات الاقتصادية والسياسية بين المغرب والاتحاد السوفييتي.
مدرسة “AL BAYANE”
بعد عودته إلى المغرب عام 1978 التحق بسلك التدريس الجامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بالدارالبيضاء، وقد كان يحظي بتقدير واحترام كبيرين من طرف زملائه الأساتذة ومن طلبته، بفضل طريقة تدريسه ومنهجيته التربوية وجديته في العمل وجاهزيته للعطاء الفكري إزاء طلبته ومفهومه للمساندة وللتقاسم المعرفي إزاء هيئة التدريس.
وبموازاة مع عمله الأكاديمي، انخرط كصحفي متطوع في هيئة تحرير جريدة AL BAYANE “البيان” باللغة الفرنسية، التي كانت تصدر أسبوعيا، ورغم الصعوبات المادية والتقنية والإكراهات السياسية فقد تمكن بعد مدة من التمرن المهني والتكيف مع المشهد الإعلامي والوضع السياسي والإخلاص لحزبه من إعطاء دفعة حقيقية للجريدة الناطقة باسم حزب التقدم والاشتراكية في طبعتها الفرنسية بالخصوص، بفضل تفرغه المستمر وتسخير قلمه لقضايا الوطن والدفاع عن الطبقات الشعبية والعمال والفلاحين الصغار والمثقفين المتنورين.
وعرفت جريدة AL BAYANE دفعة قوية خلال الخمس عشرة سنة تحت رئاسة تحرير ندير، وأصبحت الجريد الأكثر مقروئية في المغرب، والمفضلة لدى العديد من المثقفين، وطبعا بفضل المساهمات التطوعية المستمرة باللغة الفرنسية لأعضاء من قيادة الحزب، نذكر منهم عزيز بلال وشمعون ليفي وخالد الناصري وميمون حبريش ومحمد فرحات ومحمد أنيق وعبد القادر برادة وفهد يعته وعبد القادر الجمالي ومصطفى الزاوي غيرهم.
حضور وطني وإشعاع دولي
لقد طبع ندير المشهد الإعلامي المغربي، وتجاوز إشعاعه حدود المغرب ليبرز اسمه كأشهر صحفي مغربي وعربي وإفريقي، حيث كانت الجريدة الفرنسية (لوموند) تنشر من حين لآخر مقالاته بصفحتها الخاصة بالشؤون الإفريقية، وحصل على جائزة منظمة الأمم المتحدة للسكان FNUAP المخصصة لمكافأة كل شخص ساهم بكيفية ملحوظة في تعبئة المجتمع العالمي حول القضايا مرتبطة بالسكان وإيجاد الحلول لها. كما أسمع صوت الصحافة المغربية والعربية داخل قاعات الأمم المتحدة، وتم استقباله من طرف الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب الذي خصه بحوار صحفي، وهو أول حوار لصحفي عربي إفريقي مع رئيس أمريكي.
ورغم معاناته مع المرض بعد الحادثة المشؤومة، وصعوبة التحرك، فقد كان يصر على الحضور اليومي إلى مقر الجريدة من أجل العمل والعطاء بسخاء، وكذلك الأمر حين كان نزيلا بالمستشفى العسكري بالرباط أو بمستشفى la Salpêtrière بباريس أو بالمستشفى الأمريكي.
وقد حظي الفقيد ندير طيلة مرحلة المرض بالعناية الكريمة للملك الحسن الثاني رحمه الله الذي كان يكن لشخصه كل التقدير والإعجاب لدوره الإعلامي وإسهامه السياسي.
العمل الإعلامي.. تفتح وجرأة
زيادة على تحرير ندير لافتتاحية يومية غالبا بتوجيه من مدير الجريدة السي علي تحمل توقيع “البيان”، وتحرير مقال مركزي بتوقيعه أو “أبو سوسن”، فإنه كان حريصا كذلك على كتابة تعليق قصير يومي تحت عنوان «Mais dit l’autre» إلى جانب زاوية ساخرة منتظمة «Les mauvaises Langues» يفتحها بين الفينة والأخرى لمساهمات بعض أعضاء هيئة التحرير.
وتميزت الافتتاحيات التي كتبها والمقالات اليومية التي نشرها بنكهة فريدة من نوعها، بما تتسم به من جدية في المعالجة الصحفية ومن صرامة في استعمال قواعد اللغة الفرنسية، ومن قدرة هائلة على طرح الأفكار وسلاسة في التعبير عن المواقف والطروحات ونزاهة فكرية عند توجيه الانتقادات، الأمر الذي ساهم في توسيع دائرة قراء الجريدة يوما عن يوم، واستجلاب أقلام جديدة لها، وفي تزايد أعداد المعجبين بأسلوبه السهل الممتنع وجرأته السياسية، وبالتالي المتعاطفين مع الحزب. كما كان خلال مروره في البرامج الحوارية التلفزية بالقناتين المغربيتين يبهر المشاهدين والمتتبعين لما يظهره من مواهب شخصية كإعلامي متألق وسياسي متميز
إن “البيان” كجريدة حزبية مدينة لنظرته ولرؤيته، حيث عمل بشكل كبير على إحداث تغييرات ملحوظة في شكلها ومضمونها، كما ساهم بشكل نشيط ودؤوب في تحويل بعض الأفكار وتجاوز القوالب الجاهزة داخل الحزب، وإغناء أطروحات الحزب السياسية، واستطاع جلب مناصرين ومؤيدين لمقاربته الجديدة على أساس الوفاء للنظرية الاشتراكية ولمصالح الطبقات الشعبية دون أي تنكر للمبادئ الديمقراطية والأفكار التقدمية.
العمل الحزبي.. إغناء وتجديد
لم يكن ندير غريبا عن التحولات السياسية الكبيرة التي كانت تخترق المجتمع المغربي، أو بعيدا عن النضالات التي يخوضها حزب التقدم والاشتراكية، وبفضل نشاطه وما اكتسبه من خبرة وما حققه من مكتسبات وما أبان عنه من استعداد، فقد استطاع بعد وقت غير طويل أن يصير أحد الأطر السياسية الجديدة التي تحملت المسؤولية في قيادة الحزب، حيث تم انتخابه باللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية في المؤتمر الوطني الثاني للحزب عام 1979 ثم بالمكتب السياسي في المؤتمر الوطني الرابع عام 1989
وفي هذا السياق، لا يمكن القفز على مساهمته الرائعة القيمة والعميقة في النقاش داخل اللجنة المركزية التي ظل اجتماعها مفتوحة لدورات إثر سقوط جدار برلين، والتي تم نشر صيغتها بالفرنسية بجريدة “البيان” وصيغتها المترجمة إلى العربية بجريدة “بيان اليوم” بالعربية، تحت عنوان (في نهايتي تكمن بدايتي).
كان رجلا ذا قيمة إنسانية كبيرة، مواطنا محبا لوطنه، مناضلا بحماس وتفاؤل، عرف كيف يوظف ذكاءه لفائدة حزبه وخدمة شعبه، ما جعل مساره في الحياة مسارا إيجابيا بكل تأكيد، وبوأه مكانة فاعل سياسي من الطراز الرفيع بما لا يقبل الجدل.
المصدر بيان اليوم