أحمد حبشي
في حياتي لحظات زاهية يفوح عطرها من حين لآخر فتبتهج أيامي، أستعيد توهجا عرفته في أقصى درجات العزلة والانشطار، تتفتق أساريري ويفيض وجدي. لحظات في كل تفاصيلها تذكرني برفاق قضيت بينهم أزهى فترات عمري. رفقة في سعة الحياة، كل ما تعلمته بينهم ومعهم أعطى معنى لكل القادم من حياتي. كنا ثلة من الشباب نفيض حماسا وتطلعا للتغيير، ومستعدين لأقصى درجات التضحية لصد التسلط والحد من جبروت الاستبداد. مختلف المشارب كنا، وحدتنا فكرة أن نقدم خدمة للوطن، نحرر الانسان من ظلم جائر وتعنت سافر، فكان ما كان أن زج بنا في سجون لهد وتدمير حلمنا.
غادرنا السجن في فترات متباعدة، بعد أن قضى كل منا المدة التي حكم بها أو أعفي من بعضها، تفرقت بنا السبل في محاولة لإثبات الذات وفتح آفاق معيشية وإنسانية تليق بما كنا نطمح إليه، في الدفاع عن الكرامة والعيش الكريم. استعاد كل منا موقعه الاجتماعي وانخرط في تجربة إنسانية جديدة، اشتغل العديد منا بفعالية في مؤسسات مدنية حقوقية وسياسية، وبدأت تتجلى بعض خلافاتنا في ممارسة حقنا كمواطنين في التعبير عن مواقفنا في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، كانت مناظراتنا تعرف أحيانا مستوى من الحدة في بعض الملتقيات أو في تقييمنا لوقائع وأحداث سياسية ومجتمعية. غير أن أواصر المودة والتقدير والاحترام المتبادلين ظلت السمة الغالبة في علاقاتنا، نتقابل من حين لآخر في علاقات فردية يغمرها الود وكل مشاعر المودة. كانت لقاءاتنا المتباعدة لحظات فرح وفسحة للتعبير كل منا للآخرين عن مدى اعتزازه برفقتهم، وأن ماضينا المشترك كان مساحة ضوء شاسعة في حياته، زادت قناعته بأننا صنف مختلف من النساء والرجال في الوفاء وصفاء المشاعر.
في صيف 1999 التقينا في بيت فقيدتنا العزيزة أسية الوديع، في أمسية رائقة، لا أتذكر كثيرا كل من كان حاضرا، كانت لحظة مثقلة بكل معاني النبل والوفاء ضحكنا فيها حتى وقت متأخر من الليل، في أجوائها سطعت فكرة تنظيم لقاء سنوي يحضره كل رفاقنا وأسرهم. في نقاش الفكرة ازداد حماس الجميع والتهب الشوق لرؤية الكثير من الرفاق الذين تفصل بيننا وبينهم مسافات. كلفت بمهمة الإعداد وتنظيم هذا اللقاء، وعبر العديد من الرفاق الحاضرين عن استعدادهم للمساهمة المالية الضرورية لإنجاز الفكرة وتحقيق حلم.
ما أن علم الرفاق بمشروع اللقاء حتى ازداد الحماس وتم الاتصال بالرفاق في مختلف المدن وتكليف رفيق في كل مدينة بتعميم الخبر والتواصل معي لتحديد عدد المشاركين وإعداد شروط استقبالهم. كان مشكل مكان اللقاء عقبة مستعصية وكذا مشكل إيواء الرفاق القادمين من مدن بعيدة عن الدارالبيضاء. تمكن الرفيق عبد السلام بودرار من توفير المكان وعمل الكثير من الرفاق على إعداد بيوتهم وبيوت بعض الأصدقاء لتوفير الإيواء.
كان الحضور فوق المتوقع، حضر الرفاق من مختلف المدن المغربية بمعية أزواجهم وأبنائهم، كان اللقاء لحظة فرح رائقة ساد فيها انشراح منقطع النظير. تواعدنا على أن يكون لقاء سنويا أو كلما سمحت الظروف بذلك، فالتجربة الأولى كانت ناجحة وآليات تنظيم اللقاء أصبحت واضحة.
بعد عودة ابراهام السرفاتي من منفاه القسري بباريس، عقد اللقاء الثاني في أكتوبر سنة 2000 بالمحمدية في نفس المكان، تعذر على بعض الرفاق حضور المناسبة وعرفت نفس الصخب وانتشار البهجة، أجواء زادت من الرغبة في مواصلة التواصل السنوي وتعميم الدعوة لكل رفيقات ورفاق التجربة السياسية التي عشنا كل تفاصيلها في بداية السبعينات، خصوصا وأن اللحظات كانت مثقلة بشجون الغياب والفرقة، وأكدت على أننا أكثر من رفاق لفتهم روابط السياسة وجذرية المواقف من الحاكم والحكام. فعلاقاتنا الإنسانية المحفوفة بالمشاعر النبيلة والعواطف الجياشة كانت فوق كل إحساس بالرفقة ووحدة المعاناة التي صهرتنا على مدى اكثر من عشر سنوات. كان الحماس أكبر وتهافت الرفاق على احتضان المبادرة، وواصلنا اللقاءات في مواعيد مختلفة كانت كلها مفعمة بالبهجة والحبور. كان لقاء القنيطرة ولقاءات الرباط المتكررة، وكبر الاصرار على أن نلتقي بانتظام في لقاء سنوي بمعان مختلفة مع الحفاظ على عمقه الانساني ودلالاته النبيلة فتحية تقدير وإجلال لرفاقي الذين أكن لهم كل معاني المودة والحب الكبير على وفائهم الصادق وودهم الجميل.