بقلم محمد البشير الزناكي والصديق الأحرش
من هم حاملو الأحلام هؤلاء؟ ماذا يمثلون ويمثلن في مسار المغرب؟ إذا طرحنا هذه الأسئلة على نفس الأشخاص الذين حملوا هذه الأحلام، فيسفر ذلك عن تنافر صارخ في الجواب، أو سيتعين علينا الانتظار إلى أجل غير مسمى للحصول على إجابة غير محتملة! إن التنوع الذي يخترق مجموعة الحالمين هذه يشكل، في مداه، انعكاسا للفوارق الدقيقة الكثيرة جدا التي تهب على بلادهم، ولا سيما على اليسار.
من الناحية التاريخية، سنجد أنفسنا أمام أشخاص أعزاء- فقدنا عددا منهم-أثرت فيهم محن الحياة ودورتها البيولوجية التي لا ترحم. سواء رحلوا أو ما زالوا بيننا، سيظلون بمثابة عينات متناثرة بين الجموع البشرية! اما الحركة، فكانت عبارة عن مجموعة غير متجانسة، ساعتها، تتألف بشكل أساسي من شباب (رجالا ونساء)، وفتيان صغار أحيانا؛ إلى جانب بعض القدامى الذين رفضوا، بإصرار، التقدم في السن.
واكب هؤلاء الشباب تمردات واحتجاجات سكان هذا البلد طيلة أربعين عامًا تقريبًا منذ سنة 1965 حتى بداية التسعينيات. عاشوا هذه المرحلة، في وضعية استثنائية، وضعية المنبوذ سياسيا من قبل الجميع: السلطة، والمؤسسات الرسمية أو التقليدية، والمعارضين الرسميين أو غيرهم، والمثقفين والجامعيين؛ الكل أو الجل يعتبرهم مجرد هرطقة. كانوا يشار لهم بالبنان من قبل النخب على أنهم عصاة متمردين، وعناصر شاردة أصلا، موصومة بالعار، ولم يُنظر إليهم أبدًا على أنهم جزء من أي بديل، ولا من أي حل ممكن.
صعود لا يمكن إلا أن يزعج
من الاستخفاف بهؤلاء الشباب في الستينيات من القرن الماضي، تحولت الكراهية والازدراء تجاههم إلى عدوان عنيف في السبعينيات. مثل المنبوذين، لم يسمح لهم أن يكون لهم صوت، ولا مكان في أي منتدى معترف به اجتماعيًا. ومع ذلك، ورغم أنهم كانوا أقلية في مجتمع يسيطر عليه الرعب والخوف، فقد تميزوا، بمفردهم تقريبًا، بالشجاعة للمضي قدمًا بوجوه مكشوفة، في كرنفال سياسي واجتماعي حيث كان الجميع بأقنعة.
تقاسم هؤلاء الشباب، الذين بدوا معزولين في كل مرة خلال هذه الأربعين سنة، مع العديد من أقرانهم، في العديد من البلدان الأخرى عبر العالم، نفس التعطش للحرية والكرامة والآمال والتقدم لشعوبهم. والمدهش أنهم كانوا، في كل مرة، يتشبعون بالأفكار والقيم التي تنتجها الحركات الاجتماعية والفكرية في العالم، معبرين عن مفارقة هذا المزيج المغربي الاستثنائي، حيث يختلط القديم والجديد دون اعتبار أو إشعار. ومن مميزات هذا التاريخ غير العادي، أيضا، اتسام هؤلاء الشباب بحيوية ودينامية لا تتصور في مجتمع مناقض لذلك، تقليدي راكد وجامد للغاية.
كان تواجد هذه الحركة الشبابية، بل ووجودها في حد ذاته، شيئًا محرجًا. فقد أزعج مختلف الآخذين بزمام السلطة، والمحتكرين قهرا للمؤسسات، بل أزعج حتى الزخم الهيمني لليسار التقليدي.
كيف كان ذلك ممكنا؟
قد يكون أبرز ما في هؤلاء “الرفاق”؛ كما يحبون أن يصفوا (ن) أنفسهم (ن)، هي طريقتهم في إدراك الأشياء والكائنات والأحداث، حيث كل شيء سيرورة في نظر هذه المجموعة.
في البداية، ربما كانوا يجهلون مختلف الحقوق، لكن مع المطالبة بالحقوق التي كانوا يعرفونها ويقرونها بيقينية، بدأوا يتعرفون على مسالك الحرية، والحقوق المشتركة والملموسة، حيث أدت تجربتهم إلى بناء، طواعية أو إجبارا، علامة بارزة في الوعي السياسي لشعب تحاول الآلة الاستبدادية أن تنسىيه إمكانية الرفض والعصيان. لقد أفضى مسار هذه الحركة الشاق إلى إقامة جسور لمقاومة شعب أرادوا له أن يؤمن بأن الإهانات الداخلية والخارجية قدر يستحيل الوقوف في وجهه!
كان مخاض التكون طويلاً، حيث لم تظهر المحاولات التنظيمية الأولى إلا في السبعينيات من القرن العشرين؛ كما كانت موجات هذه الحركة تظهر إلى السطح عقب مختلف الحركات الاحتجاجية الطلابية، وحملات قمع الحركات الاجتماعية، أو الاحتجاجات السياسية والاعتقالات والمحاكمات، وفي علاقة بشبكات الدعم والتضامن العائلية وغيرها؛ وبذلك كان الوعي السياسي للحركة نتاج جدلية حركات المعتقلين والمنفيين وفضاءات النضال الفجائي التي تتاح كفرص ملائمة في سياق القمع الذي كان حاضرا في كل مكان.
سيحمل الاسم دائمًا ألغازه
كان من الصعب إعطاء اسم لهؤلاء الشباب، إلا من طرفهم ولأجلهم. فعلى مر السنين، أطلقوا على أنفسهم أسماء كانوا في النهاية وحدهم من يستخدمونها ويعترفون بها: الحركات الماركسية-اللينينية أو أي تسمية من هذا النوع، كما أنهم كانوا يستعملون، أحيانًا، شعارات ثورية بسيطة للتعريف بأنفسهم. لذا لم يكن التعريف بهم بالمهمة السهلة، حتى بالنسبة لأولئك الذين أرادوا القيام بذلك عن حسن نية.
غير أن ما جعلهم مميزين حقًا لم تكن أسماءهم ولا شعاراتهم ولا خطاباتهم. لقد كانوا، ببساطة، يتميزون لدى جماهيرهم الحقيقية أو المفترضة، بوفائهم المبهر لالتزاماتهم، وشجاعتهم لقول لا بكل وضوح، والتعبير عن رفضهم في وقت كان من اليسير أكثر، عن طيب خاطر وإكراها أو بالعادة، قول نعم والإذعان أو خفض الرأس وغض النظر.
انحدر هؤلاء الشباب من مختلف مناطق البلاد ومن جميع الفئات والطبقات الاجتماعية، أبناء أسر متواضعة وغير معروفة، وكذلك أبناء شخصيات سياسية أو اقتصادية أو دينية، ينتمون إلى أوساط مسلمة أو يهودية، كما كانوا عربا أو أمازيغ من المدن أو القرى، من عائلات ميسورة أو فقيرة، منحدرين من كل بقاع المغرب. تنوع متناقض بدا وكأنه يسخر من “الصراع الطبقي” الذي يؤمن به معظمهم، خاصة عندما يفرض السجانون على مر السنين على ذويهم وأصدقائهم، المختلفين تمامًا، الوقوف سواسية في طوابير أمام الأسوار البغيضة وأبواب السجون في هذه الفترة المضطربة من تاريخ المغرب.
كانوا في غالبيتهم طلابًا، أو تلاميذ، أو في بداية مسيرتهم مهنية؛ فكانوا الأكثر راديكالية في المجتمع، يحملون أحلاما لا تزال طرية وتبدو ممكنة التحقق، وتطلعات وطموحات جامحة، وقلوب مفعمة بالإيمان…. وفي هذه اللحظات بالضبط، القصيرة جدًا وسريعة الزوال، من موجات مختلفة، غالبًا ما كانت تقتنصهم وتمحقهم أيادي القمع السياسي على مدار أربعين عامًا.
ضحايا أم صانعو محنهم ؟
سؤال طرحوه على أنفسهم خلال سنوات المحنة التي مروا بها في السجون وأماكن الاختفاء القسري ومخافر التعذيب والإذلال اليومي. ويجدر التأكيد اليوم أن ما يقرب من ثلثي الأشخاص الذين عانوا من هذه اللحظات من القمع الشديد لم يكن لديهم أي نشاط سياسي ملتزم وقت اختطافهم أو اعتقالهم أو سجنهم. كما أن معظمهم لم يمارسوا هذا النشاط الشبابي إلا لبعض الوقت ثم تركوه بعد أن خرجوا في مظاهرات، وكتبوا شعارات على الجدران، ووزعوا منشورات، وشاركوا في اجتماعات سياسية سرية، وانخرطوا في خلايا تعبوية…. ومع ذلك، تعرضوا جميعًا لعذابات لا إنسانية من خلال آلة قمعية أرادها المسؤولون عنها عمياء عن عمد وسابق إصرار. آلة عاقبت وأساءت المعاملة باسم نظام استبدادي، يعتبر كل شخص مذنب حتى تثبت براءته. ولم يكن القمع في تلك الفترة، التي سميت ب”سنوات الرصاص”، يعترف بأي حقوق للمجتمع، بل كان متغطرسا، ولم يعر أي اهتمام لقوة رد الفعل التي قد يثيرها لدى خصم عازل وعاجز ويعاني من الحرمان!
مناضلون أدوا غاليا دروس الالتزام
لم يقطع أغلب هؤلاء الشباب، ولأول مرة في حياتهم، سوى مسار قصير من النضال السياسي، تلته فترات طويلة من المضايقات البوليسية. كما واجه بعضهم سنوات من الاختفاء القسري أو النفي أو السجن. وإذا كانت لقلة منهم تجربة في الانتماء إلى أحزاب المعارضة، فإن الآخرين دخلوا هذا الميدان بدون مقدمات… فاكتشفوا رعب وغباء السياسة في البلاد. وقد نسي التاريخ، حتى وإن كان عن حسن نية، الحديث عن مسار آلاف الشباب الذين لم يتم التطرق إلى معاناتهم وتضحياتهم أبدًا، فلفهم النسيان، والتكتم، وعدم الكشف عن هويتهم بشكل مطلق،،… ومن المرجح أنه تمت التضحية بعدة أجيال في هذا السياق.
بدأ كل شيء بالنسبة لكل هؤلاء، نساء ورجالا، عندما تذوقوا طعم تلك الجرعة السحرية التي ظهرت إبان الاستقلال الوطني. فقد آمنت أجيال ما بعد الحماية بفرصة تحررها من نير الاستعمار، كما آمنت ببداية الازدهار الاقتصادي والسياسي في بلد ذي سيادة يضمن كرامة مواطنيه.
آمن هؤلاء الشباب بقوة العلم والمعرفة، وبمزايا العمل والصدق والمثابرة. كانوا يأملون في رؤية بلادهم تتقدم في هذه المجالات لتحسين حياة شعبها الفقير والمحروم.
وكم كانت فظيعًة خيبة أملهم، عندما رأوا، منذ العقد الأول بعد الحماية، مدى الإحباطات والإخفاقات والمصادرات؛ وعندما اكتشفوا التزوير الذي شاب الانتخابات الأولى، والتلاعبات الأولى، والدسائس السياسية الأولى، والاحتجاجات الأولى وأولى الحملات القمعية.
انهيار الزعامات والبحث عن مخارج جديدة
حدث هذا بسرعة فائقة. تفاقم الاستياء عندما اكتشف هؤلاء الشباب أن الرموز والزعامات التي كانوا يؤمنون بها، تم تهميشها أو القضاء عليها أو تحييدها على الساحة السياسية لتلك المرحلة (اختطاف واغتيال مهدي بن بركة،..) ! لقد أثار عجز الرموز والقيادات السياسية عن إعادة تأهيل المشروع الوطني لما بعد الحماية وصونه وحمايته ردود فعل شديدة على مستوى المجتمع المغربي المفكك والجريح.
هكذا، بدأ بعض الشباب، بعد أن وضعوا ثقتهم وآمالهم في تشكيلات سياسية معارضة فعلا، مثل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحزب الشيوعي المغربي، في الابتعاد عنها؛ وأمام عجز ونكسات هذه التنظيمات، بدأوا في استكشاف مسارات أخرى، وفق تطورات النضالات اليومية.
وشكلت المدرسة العمومية والمؤسسات التربوية أو التكوينية الفضاء المفضل للنشاط السياسي في ذلك الوقت، حيث كان الشباب أكثر عددًا والوعي السياسي أكثر تقدمًا: هكذا، أعرب الشباب المغربي، بشكل مبكر، عن إرهاصات استقلاليته تجاه جميع البنيات المؤسسية للمجتمع، التقليدية، الدولتية أو الحديثة؛ استقلالية سرعان ما أثارت عدم رضا مختلف الأحزاب السياسية القائمة، وذلك منذ ستينيات القرن الماضي!
استقلالية حتمية لكن بشق الأنفس
كان الشباب حاملو الأحلام هم الرواد، في موجات متتالية، على مدى أربعين سنة (1965-1995)؛ حيث بلورت هذه الحركة السياسية إرادة الشباب طوال هذه الفترة لتحرير أنفسهم من وصاية البنيات السياسية المهيمنة ومواجهة محاولة ترويض المجتمع من طرف الحكم. وهذا ما منح، باستمرار، المصداقية للرحلة الشاقة لهذا التعبير السياسي منذ بدايته حتى نهايته.
ولكن هل تعني الاستقلالية امتلاك مشروع بديل راسخ يتمتع ببعد النظر الضروري؟ لا يبدو أن الحركة ادعت أنها تملك مثل هذا البديل، بل سعت فقط لتبين ملامحه. والحقيقة أنه كان لديها، أساسا، طموح لصياغة أدوات بلورة هذا المشروع. بيد أنه ومع تطور المسار، وتوالي السنوات، بدا أن نتاج التجربة على هذا المستوى، والذي تقاطع مع تراكم الاضطرابات والتشنجات الاجتماعية في المغرب، قد أبعدها عن هذا الهدف، أن كان لديها أصلا. ومقابل ذلك، شاركت الحركة في مسيرة هذا البلد من خلال مساهمات أكيدة، من قبل مناضليها في بعض الأحيان، أغنت الثقافة السياسية للبلد ككل؛ فإليها يعود الفضل، لوقت طويل، في إدخال المعجم الديمقراطي، مثل معجم حقوق الإنسان أو محاولات تكوين المجتمع المدني وتمكينه!
وأكثر من ذلك، لم تنجح يوما الفوارق الدقيقة والاختلافات، التي نسجها التاريخ وسط تنوع هذه الحركة، في الهيمنة والتأثير على هذه الحركة، التي ظلت منفتحة، وأقل حلقية، وبذلك بقيت أكثر إشعاعا وتأثيرا، وأكثر اندماجًا في بنية المجتمع المغربي المعقدة جدا. ولم يكن لهذه الحركة، خلافا للتقاليد السياسية لمنطقتنا الجغرافية، “ممثل شرعي وحيد” يتحدث باسمها، ولا يمكن لأحد أن يدعي ذلك بمفرده! فقد تميزت الحركة، نوعا ما، بأنها لم يكن لها مُنظِّر مفوض ومعترف به داخلها، وحتى الذين تناوبوا على قيادتها كانوا أقرب إلى أبطال هوميروس من مبدعي النظريات السياسية!
التغيير يحتاج إلى معرفة ومهارة
لقد حافظ الوعي السياسي للحركة على طابع محلي، شعبوي أحيانًا، ويستند إلى خطاب سياسي فقير. غير أنه يجب الإقرار، على الأقل، أنه كانت لديها مقاربة للتغيير، لا تدخل ضمن الخطابات العاطفية، بل كعمل مدروس ومصمم ومهيأ له. ولم يكن النظام القائم يرى لهذه المقاربة بارتياح، لأنها تؤكد بوضوح على نسبية مفهوم القوة، وتفرض عليه التخلي عن حالة الانغلاق القائمة وإمكانية التحول والانفتاح.
إن هذا البديل الذي بلوره اليسار “الجديد” كسيرورة، فرض على النشاط السياسي ضرورة ترجمة نفسه ضمن إجراءات وبرامج تعني المجتمع بأسره، وبالتالي منح فضاءات الحوار والتشاور هوامش حقيقية للتأثير في المجتمع والتأثر به.
لم يكن هذا التصور الأساسي لينال رضا النظام القائم وصناع قراره من ناحية، كما فرض أيضًا على اليسار التقليدي أن يعتمد المخاطر التي لم يعد يفكر فيها أو تلك التي لا يود في تناولها إلا في علاقات مغلقة مع الحكم، خارج المسار المؤسسي الذي يعرف أنه جامد ولم يعد يرغب في بذل أي جهد لتطويره بغية جعله حاملًا للتغيير.
التزامات سلمية بالأساس
يمكن للمرء أن يتساءل، اليوم، كيف لم ينغمس شباب هذه الحركة في الحلقة المفرغة لدورات رد الفعل على العنف، خلال الأربعين سنة المشار إليها، التي تميزت بالعنف المفرط والتعسفي من قبل أجهزة النظام؟ ويظل السؤال واردا خصوصا مع تضخم الخطاب المتعلق بالإرهاب.
كانت خطابات مختلف فصائل هذه الحركة، طيلة مسارها، راديكالية ومتشددة، غير أن هؤلاء الشباب الذين فكروا في الثورة لم ينشئوا أبدًا منظمات عنيفة أو مارسوا أعمال عنف؛ لقد عملوا في أغلب الأحيان على إدانة العنف الذي ترتكبه أجهزة الدولة ضد السكان أو الذي عانوا منه هم أنفسهم. ومن اللافت للنظر، أيضًا أن البعض منهم لم يرغب حتى في اعتبار أنفسهم ضحايا، حيث اختاروا منذ البدء، وطيلة التجارب المتراكمة على مدار 40 عامًا، اعتبار أنفسهم مناضلين ينددون بالانتهاكات والخروقات يتحملون مسؤولية اختيارهم، ويتحدون خصومهم! كان معظمهم يحملون راية المناضل الملتزم مثلما يحمل الجنود الشارات أو النياشين بفخر!
يسار لا يعترف به كل أهله
استبعدت هذه الحركة، خلال الأربعين عامًا من رحلتها المتميزة، كلمة الإصلاح من قاموسها. كانت ترى نفسها في جميع ثورات الشعوب بمختلف أنحاء العالم وكذلك في ثورات الشعب المغربي. بغض النظر عن اختلافاتهم الخاصة، كانوا يعلنون أنفسهم، في معظم الأحيان ثوريين، جذريين غير مساومين. أعلنوا بصوت عالٍ وواضح تنديدهم بكل وجوه القهر والظلم. كانت قيم الإنصاف والتضامن في صميم قناعاتهم في الأقوال والأفعال والمشاريع! لقد اعتبروا أنفسهم من اليسار حصريًا، حتى عندما كانوا اليساريون المحليون المرخص لهم يسعون إلى احتكار هذا اللقب! كثوريين لا يعتبرون أنفسهم يسراويين أو متطرفين يساريين، وهي صفات حاول البعض إلصاقها بهم، لكن أسوأ إهانة بالنسبة لهم كانت تتمثل في اعتبارهم “إصلاحيين”؛ فبسبب حساسيتهم تجاه “الإصلاح ” كانوا يرفضونه بشكل ممنهج، ويحتفظون بلقب الإصلاحيين حصريًا لخصومهم من اليسار.
هل كانوا يساريين أم ذوي توجهات يسارية متطرفة؟ يخلط البعض، عن جهل أو سوء نية، بينهم وبين بعض المجموعات الأوروبية مثل مجموعة توني نيجري بإيطاليا، أو العمل المباشر بفرنسا. والحقيقة أن هذا الربط لا يعبر عن هويتهم. ونفس الشيء حين يرفض البعض تسمية اليسار الجديد، في حين يشير البعض الآخر إلى صلات قرابة مع الحركات البيئية أو البديلة. سيكون من الأمانة أكثر القول إن تطور النضالات السياسية في المغرب ساهم قبل كل شيء في جعل هذه الحركة أو روافدها تعبيرًا ملتزمًا بالقضايا الديمقراطية التشاركية والحقوق السياسية والاجتماعية.
العمل من أجل التغيير مع الشعب
أكدت هذه الحركة قبل كل شيء، في مراحل مختلفة من مسارها، أولوية التغيير السياسي كضرورة استراتيجية يجب أن يقوم عليها العمل السياسي، كشرط أساسي لالتزام الأشخاص واستعدادهم لخدمة المواطنين ومصلحة المجتمع بكل صدق ونزاهة. قد تكون هذه هي الخطوط التي تفصل بوضوح بين اليسار التقليدي كما هو في المغرب عن هذه الحركة اليسارية. إلا أنها تشترك مع المكونات الأخرى لليسار المغربي في تمسك الجميع بالمساواة، الأمر الذي يمكن ترجمته في برنامج مشترك لمحاربة المستفيدين من أشكال التمييز المتعددة المحتكرين لموارد وثروات البلاد. وذلك حلم آخر.