جواد مديدش
فبراير 1975؛ ( الغرفة السوداء، ص 73-74-75)
السادسة صباحاً، الأصوات نفسها، ممططة، جارحة بغيضة تنتزعنا من نومنا، أولاد القحاب، الكفار، أعصابة اليهود الصهاينة، الزوامل تقع على رؤوسنا وقع الحجارة. ذلك وقت استبدال فريق الحراسة، تناوب علينا أربعة فرق، بمعدل 6 ساعات لكل فريق ـ فهم يوقظوننا، في هذا الوقت المبكر من النهار، ليقتادونا الى المراحيض. إنه الوقت الذي يحلو لهم أن يفعلوا بنا ذلك. بين الساعة الثامنة صباحا والزوال، تصبح الردهة المؤدية إلى المكاتب ممنوعة منعاً باتاً من كل متجول إلا المحققين. كنا نجتاز الرواق في طابور طويل، حتى إذا جئنا المراحيض وقفنا عند أبوابها منتظرين، ثم ندخلها فرادى، لا يجوز لمن يدخلها أن يلبث فيها أزيد من دقيقتين، يكون على السجين، في تلك البرهة الخاطفة، أن يغتسل في المغسل. ويبول في المبولات الزليجية الشبيهة بتلك الموجودة في دور السينما، أو في الحانات. ويتغوط. فهو، لأجل ذلك، ينزوي بنفسه داخل المرحاض، وكل من تجاوز تلك الدقيقتين، لم يكن له مناص من السوط يهوي على رأسه.
كان لنا في تلك الفسحة الصباحية إلى المراحيض أفضل لحظات اليوم. كنا نغافل الحجاج، فنتعرف على بعضنا بعضاَ، ونتناقل فيما بيننا الرسائل والأخبار. لاأزال أرانا نقف منتظرين في ذلك الرواق مرتعدين من شدة البرد، والوقت يومئذٍ، مطلع شهر فبراير. لكن اتفق لي يوم، أن رأيت مشهداً كان أقسى علي من الألم الذي كنت أجده جراء ذلك البرد في كل صباح، وانا في سبيلي إلى المرحاض، مقتاداً ومن معي من نزلاء الدرب، كما يقتاد قطيع الدواب. إن ما رأيت قد زادني ارتعاداً على ارتعاد. مشهد انفطرت له أحشائي وأنساني حالي، فقد كنت، برغم كل شيء، لا أزال أستطيع المشيء على قدميّ. وعلي أن أشكر السماء أن خرجت سالماً معافى مما أنزل بي أولئك الجلادون الغلاظ من صنوف التعذيب والتنكيل. وأما عبد الله زعزاع، فكانت يداه وقدماه ملفوفة كمثل أطراف ذلك الرجل الذي أخذ بالاشتباه في كونه عنتر في ضمادات كثيفة، بعد أن مزقها الجلادون شر تمزيق. كان يجرجر نفسه أمام أنظارنا يحاكي زاحفاً من الزواحف. كان يدفع بجسمه في عسر ومشقة متمسكاً بمرفقيه وركبتيه. وكأن ذلك لم يكف الحجاج فكان أحدهم يتعقبه، يضريه على ظهره بسوطه يستعجله في الزحف.
كنت لا أزال أتخبط وحيداُ، في أساي، ثم لم ألبت أن صرت في آخر يناير، اصطلي لليالي كثيرة، بسماع صرخات تمزق الصمت الجنائزي المخيم على المخفر الذي نقبع فيه. صرخات كانت نتبعث من مخافر التعذيب، تتخللها فرقعات السوط إذ يصطدم باللحم البشري. كان ذلك يحدث في عمق الليل. ويدوم ساعات. ثم كان أن تجاوز الأمر حده، فإذا بي أرتعد، وأتلفّع بالغطاء، من رأسي إلى قدمي، واحضن ركبتي. وأسد أذني حتى لا أسمع شيئاً. ما عاد في مقدوري تحمل سماع شخص يعذّب. إن ذلك لأشد قسوة على المرء من أن يكون هو نفسه الواقع تحت التعذيب.
أحسستني، تلك الليلة، صغيرا جدا إزاء هذا الحقد الوحشي الذي يكشر عن أنيابه بكل ذلك السعار. فلم أتمالك نفسي، لأول مرة، من الاجهاش بالبكاء.
أكاد أسهو عن الأسى الذي يتملكني من التفكير في حالي، إذ ألتقي، كل صباح، في طريقي إلى المرحاض، هذا المخلوق المنكفئ على نفسه، يمشي كيفما اتفق، مشية السلحفاة، متخذا مرفقيه وركبتيه قوائم. أجدني أتساءل كلما التقيته كيف تراه يفعل كي يبول أو يتغوط. وماذا يضير جلاديه لو يسعفونه بنقالة، لتحمله. كانت الممرضة تأتيه مرة كل يومين، لتدهن جراحه وتورماته بالكحول المكوفر. وتضع له ضمادات جديدة. فكنت، ومن معي من المعتقلين، نسمع نواحه الصارخ من أماكننا في الغرفة السوداء حيث انزلوني منذ أيام..
لم تكن تلك أول مرة ألتقي فيها بعبد الله زعزاع، اعرف الرجل منذ 1973 وأنا طالب بكلية الحقوق، ونحن الاثنان في منظمة الى الالمام. تعرفت عليه خلال مظاهرة دعت إليها المنظمة، كنا على الأرجح 30 أو40 متظاهراً لا أكثر، سلمنا على بعضنا وقدنا نحن الاثنين تلك المظاهرة، او ما سمي كذلك، لم تدم أكثر من 20 دقيقة، ذهب بعدها كل إلى حاله.
يناير 75 -ماي 1989 عشرتنا ونحن معتقلين ستدوم 14 سنة و4 أشهر. كان خلالها عبد الله في نفس الآن الصديق، الأخ ورفيقي في الاعتقال، ذقنا نفس التنكيل والحرمان، وتلك قصة طويلة، ستنتهي بإطلاق سراحنا يوم 7 ماي 1989. خرجنا من سجن القنيطرة صباح عيد الفطر، ونحن في منتهى السعادة، ليس فقط لأننا استرجعنا حريتنا، لكن أيضا، وهذا هو المهم استرجعناها رغم أنف نظام بدل كل ما في وسعه لإذلالنا وكنا نحن من ضمن الأربعين في حي ألف 1 وألف2 في سجن القنيطرة الذين رفضوا كل ابتزاز: تريدون الحرية؟ ما عليكم لكسبها سوى كتابة رسالة عفو الى الملك، تلكم كانت الرسالة الموجهة الى معتقلي القنيطرة في الثمانينات.
الحرية نعشقها، لكن ليس بأي ثمن، أتذكر يا عبد الله؟ جعلنا من جملة سكاروف: « On ne négocie pas la corde au cou » شعاراً. كثيرون يجهلون أن رسالتك المفتوحة الى الحسن 2، وأبرعت فيها، جاءت لترد على هذا الابتزاز ولتبيان أن اعتقالنا لم يكن من أجل قضية الصحراء كما كان يردد الملك في استجواباته مع الصحافة الدولية، جملة واحدة تختصر فكرة تلك اللحظة” لن نغير افكارنا من أجل الحرية “
« Majesté, forts de notre droit, nous luttons et continuerons à lutter pour notre liberté jusqu’à ce que nous ayons gain de cause, En tout cas, si vous avez le pouvoir de nous maintenir en prison, vous n’avez pas celui de nous faire changer d’opinion »
ستتحول صداقتي ورفاقيتي مع عبد الله الى علاقة عائلية 4 سنوات بعد زواجي بنعيمة صدوق، سوف تخطب، وكأنك مصر على استمرار مودتنا، اختها رشيدة، وقد وفقت الاختيار. فكان حبا جارفا توج بزواج أدخل البهجة في صدر أمك، التي طالما انتظرت تلك اللحظة. وككل امهاتنا شجاعتها كانت لا حد لها.
طيلة مدة صداقتنا من 1973 الى ماي 2021 تاريخ وفاته بقي عبد الله هو هو، لا أتكلم هنا عن عبد الله الملتزم، عن مشواره السياسي والايدلوجي فتلك أشياء قد تتغير بتغير الظروف، أتكلم هنا عن عبد الله الإنسان، إذ ظل طوال حياته وفيا لإنسانيته أكثر من وفائه الى ايديولوجيته. لا اذكر من قال يوما “السياسة والأيديولوجية ماهي إلا طبقة ملساء vernis) ) سرعان ما تذوب لتترك لنا الشخصية الحقيقية لحاملها، عبد الله الى آخر نفسه بقي هو هو، اسبوع قبل وفاته عدته بالمستشفى حيث كان يرقد. كان الوقت صباحاً وتعمدت أن نكون لوحدنا نحن الاثنين، همست له في أذنيه:” هل لك طلبات يا عبد الله؟” كان لا يستطيع حتى الكلام، ومع ذلك همس في أذني هوالآخر:
« on s’est mis d’accord, Rachida et moi, que si ça marche pas et que ça va continuer comme ça qu’on arrête tout..»
فهمت آنذاك ان عبد الله كان لحظتها يقاوم الموت، لكن كان يعرف أن الموت أكبر منا جميعاً ولا تفاوض معه إن هو أصرّ على ذلك.
الإنسان عبد الله بقي إنسانيا ( humaniste): بحساسيته بتفانيه لالتزاماته، تفانيا أعمى، عندما كان ماركسيا لينينا وبعدها عندما أصبح مناضلا جمعويا وفيا لأصدقائه، ولزوجته رشيدة التي أحبها إلى آخر نفسه، وبادلته رشيدة نفس الحب ونفس التفاني -وأحييها على ذلك – إلى آخر رمقه.
عبد الله لم يتغير بصموده سنة 75 وهو تحت سياط الجلاد وان كان يردد دائما أنه لم يصمد تحت السياط بما فيه الكفاية، بقي انساناَ مرهف الحس صامداً مع ذلك في وجه الأعاصير. كنت أو أصبحت جمهورياً، وهذا حقك ومبدؤك وان اختلفنا على ذلك: اكبر الديمقراطيات في العالم هي أنظمة ملكية وأفظع الدكتاتوريات في العالم هي أنظمة جمهورية. نحن ندافع عن مبدأك وعن حرية التعبير عنه مع ذلك.
مرة أخرى في احدى مقالاتي كصحافي كتبت عن شبكة جمعيات الاحياء RESAC وذكرت أن العمل الجمعوي ليس بالضرورة ان يكون مقترناً باللائكية “laïcité” مادام هذا النضال يتقاطع مع هموم الأحياء الشعبية. طبعا لم يعجب عبد الله هذا الطرح، معتبرا ان نضاله الجمعوي لا معنى له ان لن يكن مقترنا باللائكية.
هكذا كان عبد الله، وفيا لقناعاته الى أبعد حد.
مرة أخرى، داخل السجن، خلال احدى تجمعاتنا العامة لمناقشة حياتنا الجماعية، كانت إحدى نقط جدول الأعمال تشير الى إخراج السجائر من الحياة الجماعية حيث كانت تأخذ قسماً مهماً من ميزانيتنا. بعض التدخلات ركزت على أهمية الأكل، عبد الله، هو، ركز على أهمية السجائر، مضيفاً في تدخله: اعطوني سجائري وخذوا أكلكم. وحكاية عبد الله مع السجائر حكاية طويلة.
7 ماي 2021 دفنا عباس المشتري. نفس يوم إطلاق سراحه، 11 ماي دفنا عبد الله زعزاع. كنت انت رابع الوفيات من رفاقنا الخمسة المحكوم عليهم بالسجن المؤبد: بعد عبد الفتاح الفاكهاني، إبراهيم السرفاتي، وعباس المشتري.
مع غياب عبد الله سنفقد شخصية ستبقى بصماتها في التاريخ. سأفقده أنا كصديق، كرفيق وكصهر.
دام لك الخلود.
ويركان في 18 يونيه 2021